تتميز كبرى الجماعات الإسلامية في المغرب “العدل والإحسان” بموقفها الواضح من عدم الاعتراف بشرعية النظام الملكي القائم وتختار الجماعة لنفسها موقعًا خارج النظام السياسي برمته، داعية دومًا إلى المقاطعة السياسية والمشاركة في كافة الاحتجاجات والاضرابات، كما أنها تشغل حيزًا كبيرًا من مساحات العمل الإسلامي، حيث تنتهج مسار التربية والدعوة وتميل إلى النزعة الصوفية التي يتميز بها المغاربة.
الجماعة التي تأسست عام 1986 على يد الشيخ عبدالسلام ياسين، الذي تعرض للاعتقال أكثر من مرة أولها بعد رسالته القوية بعنوان “الإسلام أو الطوفان” التي وجهها إلى الملك الراحل الحسن الثاني في أوج سنوات الرصاص داعيًا إياه إلى الاقتداء بالنموذج العادل للخليفة الخامس عمر بن عبدالعزيز، وقضى على إثرها ثلاث سنوات ونصف في السجن، قبل أن يُعتقل مرة ثانية على خلفية مقال بعنوان “قول وفعل” كتبه ردًا على الرسالة الملكية التي نشرها الحسن الثاني بمناسبة حلول القرن الخامس عشر الهجري، كما أنه عاش معظم حياته قيد الإقامة الجبرية التي فرضها عليه النظام بدءًا من العام 1989.
بطبيعة الحال النظام المغربي لا يعترف بالجماعة ويعتبرها غير شرعية كما يلجأ في مواجهتها إلى إجراءات قمعية تطالها وتطال قياداتها بين الحين والآخر، وﻻ يبدو النظام الملكي حريص على استيعاب الحركة ضمن نظامه السياسي، بل يبدو سعيه نحو تهميشها والتقليل من تأثيرها على الجوانب السياسية والاجتماعية واضحًا.
تلزم الجماعة نفسها بانتهاج خط سلمي بامتياز في التعبير عن مواقفها وأرائها بعيدًا عن ممارسة أي نوع من أنواع العنف ولو لفظيًا، وتبرز ذلك في أدبياتها التي تتحدث عن أن ما انبنى على العنف لا يجنى منه خير وﻻ يمكن أن يدوم وخسارته محققة وربحه بعيد الاحتمال، وعن وجوب الامتثال لأمر الله سبحانه وتعالى بحقن الدماء والعفو عن المسلمين حسب رأي الجماعة.
مع انطلاق الثورات العربية مطلع العام 2011 برزت الحركة على الساحة بدعوتها أنصارها المشاركة في الاحتجاجات التي دعت لها ونظمتها حركة 20 فبراير في محاولة لم يكتب لها النجاح للالتحاق بركب الربيع العربي، إلا أن النظام الملكي سرعان ما نجح في تجنب ذلك السيناريو بتعديل الدستور وإجراء انتخابات برلمانية نجح فيها حزب إسلامي “العدالة والتنمية” وشكّل على إثرها حكومة ائتلافية ما زالت تدير الأمور حتى اليوم، تلا ذلك اختلافات حول الرؤى بين مكونات 20 فبراير ما بين رفع مطالب إصلاحية تتسق مع الواقع ورفع شعارات ومطالب أكثر جذرية، انسحبت على إثرها العدل والإحسان وتحدثت عن استيعاب النظام لقطاعات من الحركات اليسارية التي لعبت دورًا هامًا في تكوين حركة 20 فبراير، خلافات أفقدت الحركة الاحتجاجية الكثير من مقومات بنائها وساعدت النظام كثيرًا في استقراره واجتياز سيناريو الربيع العربى بأقل الخسائر.
في مصر وخلال المرحلة الانتقالية التي تلت تنحي مبارك وحكم فيها المجلس العسكري، نظر إخوان مصر إلى تجربة العدالة والتنمية المغربي (حزب إسلامي إصلاحي معتدل) التي سبقت التجربة المصرية بوقت قليل في التقدم نحو السلطة وإدارة الحكومة بإعجاب وربما شجعتهم على التقدم نحو السلطة هم أيضًا في صورة أعطت الأمل لرؤية حالة إسلامية ناجحة في الحكم في أكثر من بلد، وتحدث البعض عن ربيع إسلامى في مصر وتونس والمغرب على غرار النموذج التركي، إلا أن عدم تمكن الإخوان من إدارة الحكومة بشكل حقيقي ومع تحكم الدولة العميقة واعتراضها كافة الخطوات الإصلاحية ومن ثم تقدم الجيش للإجهاز على التجربة بعد عام واحد من بدايتها، الأمر الذي جعل إخوان مصر يرون الوجه الآخر من تجربة العدالة والتنمية المغربى والتي تتمثل في أن الحزب لا يحكم البلاد فعليًا وإن ترأس الحكومة وبعض الوزارات السيادية، وإنما يدور في حيز ومساحة يرسمها له القصر الملكي الذي يتمتع بسلطات واسعة ويحرك الأحزاب والتيارات السياسية كقطع الشطرنج للحفاظ على استقراره وتدعيم سلطته وفقط مع امتلاكه ورقة إزاحة الإسلاميين من المشهد وقتما شاء، وهو الأمر الذي يشبه ما فعله الجيش في مصر.
مع اقتراب مرور عامين كاملين على إزاحة الجيش للإخوان من السلطة واستمرار الجماعة في رفض منح أي شرعية للجيش في الحكم وانتهاج العمل الاحتجاجي المستمر وإن قل في بعض الأحيان وارتفعت وتيرته في مناسبات مختلفة، يعود الإخوان للعمل خارج النظام السياسي؛ الأمر الذي كلفهم التعرض لقمع غير مسبوق على مر تاريخ الحركة، لكن هذه المرة لا يرفع الإخوان مطالب وشعارات إصلاحية كما كان الحال في عهد مبارك (مع الأخذ في الاعتبار حالة التعاطي السياسي المتبادلة بين الجماعة والنظام وقتها والتي تختلف عن الوضع الحالي) بل يتخذون مسارًا وشعارات أكثر جذرية وهو المسار الذي يتشابه في كثير من تفاصيله مع الجماعة المغربية (العدل والإحسان).
تمثل العدل والإحسان حالة فريدة من الحركات المعارضة في عالمنا العربي تجمع بين رؤى وشعارات تبدو ثورية وراديكالية وبين وسائل وأدبيات توحي بطريقة إصلاحية في التعاطى مع الشأن العام، ﻻ شك أن المرجعية الدينية المحافظة للحركة وكذلك نزعتها الصوفية تقف وراء ذلك، وهو المزيج الذي من المحتمل جدًا أن تسير فيه حركة الإخوان بمصر التي طالما عرفت بنزعتها الإصلاحية تجاه الدولة والمجتمع والتي تبنت مؤخرًا رؤي وأفكار جذرية حول الثورة وضرورة عدم التعاطي مع النظام السياسي القائم.
في المغرب نجح القصر في تهميش العدل والإحسان إلى حد ما، وساعده في ذلك استيعابه لحزب إسلامى آخر يتمتع بشعبية وإن تحدث البعض عن تناقصها كضريبة على ترؤسه الحكومة إلا أنه نجح في ملئ بعض الفراغ، وبدت العدل والإحسان تقف وحيدة غير قادرة على تحقيق شعاراتها ومطالبها الحالمة واكتفت بعد ثلاثة عقود من العمل خارج النظام بالتواجد بفعالية في النقابات والجامعات، وما زال النقاش دائر حول مستقبل الحركة خاصة بعد وفاة مؤسسها نهاية العام 2012 ومع الاتفاق على أنه لا ديموقراطية وتقدم حقيقى في المغرب دون استيعاب الحركة أو تقليل الفجوة بينها وبين القصر وهو الأمر الذي لا تبدو له مؤشرات من الجانبين.
بينما في مصر لم ينجح النظام حتى اللحظة في اكتساب أصدقاء جدد يتمتعون بشعبية تنافس تلك التي تمتلكها الحركة الإسلامية، بل على العكس يخسر النظام مع مرور الوقت شركائه في الثلاثين من يونيو الذين يتحولون تدريجيًا إلى معارضين أو منافسين له، بينما لا يقف الإخوان وحدهم في عدم الاعتراف بشرعية النظام وإن توقفوا عند شعارات ومطالب جذرية وحالمة حتى الآن، كما لا تبدو أي فرص للقاء بينها وبين النظام القائم؛ ما يترك للمستقبل ولتفاعلات الحالة المصرية على المستوى الداخلي والخارجي الإجابة عن قدرة أي منهما في تهميش الآخر وكسب الصراع لصالحه.