ترجمة وتحرير نون بوست
في مايو 2005، ظهر نائب وزير الخارجية الأمريكي، روبرت زوليك، في مؤسسة التراث في واشنطن لحشد التأييد لاتفاقية التجارة الحرة “كافتا”، وهي اتفاقية تجارة حرة تجمع الولايات المتحدة وبلدان أمريكا الوسطى، وجمهورية الدومينيكان.
شدد زوليك في تصريحاته حينها على فكرة أنه بالنسبة لأمريكا الوسطى والدومينيكان، هذا الاتفاق من شأنه أن يعزز الديمقراطية من خلال النمو الاقتصادي والمجتمعات المفتوحة القائمة على أساس سيادة القانون، في الوقت الذي يعمل فيه الاتفاق على ترتيب امتيازات مختلفة للأجانب، “قميص كُتب عليه صُنع في هندوراس، من المحتمل أن يكون مصنعًا في أمريكا بنسبة أكثر من 60%”، قال زوليك بحماس.
كما أكد حينها نائب وزير الخارجية، والرئيس المقبل للبنك الدولي “إن اتفاقية التجارة الحرة، ومن عدة وجوه، هي تتويج منطقي لـ 20 عامًا من التقدم الديمقراطي والاجتماعي في أمريكا الوسطى، الذي رعته وشجعته الولايات المتحدة الأمريكية”، قال ذلك متغاضيًا عن أن أمريكا، وقبل 20 عامًا، رعت أمورًا مثل كتيبة 3-16، التي وصفتها صحيفة بالتيمور صن على أنها “وحدة عسكرية مدربة من قِبل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، روّعت هندوراس في معظم ثمانينات القرن المنصرم”.
أي شيء إلا الشيوعية
على الرغم من أن محنة هندوراس المعاصرة، تظهر وكأنها محلية الصنع “صُنعت في هندوراس”، إلا أنها في الحقيقة، كقميص زوليك، مصنوعة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ فبتشجيع من السفير الأمريكي في الهندوراس آنذاك، جون نيغروبونتي، كانت كتيبة 3-16، كتيبة الموت، مسؤولة عن اختفاء حوالي 200 ناشط يساري من هندوراس، وتعذيب وخطف عدد أكبر بكثير.
وبطبيعة الحال، كان الهدف من هذا الإرهاب اليميني، هو منع انتقال هندوراس إلى الجانب الشيوعي المظلم، على غرار جارتها نيكاراغوا، والتي حظيت هندوراس بمواجهتها، بشرف كونها قاعدة عسكرية أمريكية بحكم الأمر الواقع، ومنطلقًا لحرب المتمردين الكونترا في نيكاراغوا.
وبصرف النظر عن استفادة الجيش الهندوراسي والقوى الرجعية المماثلة، استفادت قوى أخرى في هندوراس من دعم أمريكا للمتمردين الكونترا، ومن بين هؤلاء كان خوان رامون ماتا باليستيروس، أكبر أباطرة المخدرات في البلاد، ومالك شركة SETCO، التي كانت تمد متمردي الكونترا بالإمدادات، والتي يُطلق عليها اسم شركة طيران السي آي إيه.
وفي أوج المهام المتعددة التي يمارسها ماتا، لم تقتصر مهامه فقط على إمداد الكونترا باحتياجاتهم اللوجستية، بل ساهم أيضًا في تدفق المخدرات إلى الولايات المتحدة.
وهذا النوع من الترتيبات يجعل من استمرار حرب الولايات المتحدة الخطابية ضد المخدرات مهزلة واضحة، هذه الحرب التي تُقدّم الأعذار لعسكرة نصف سكان الكرة الأرضية، وتسمح لإدارة مكافحة المخدرات الأمريكية، اختصارًا “DEA”، بتجاوز حدود دولتها متى شاءت بذلك، على الرغم من أن حدود الولايات المتحدة ممنوعة الاجتياز من قِبل أي كان.
محتجزون في مرمى النيران
أحد الحوادث التي تنطوي على تجاوزات إدارة مكافحة المخدرات الأمريكية في هندوراس، كانت حادثة حصلت في عام 2012، تم من خلالها استهداف أربعة أشخاص من السكان الأصليين الفقراء، كانوا يستقلون زورقًا، بما فيهم صبي، يبلغ من العمر 14 عامًا، وامرأة حبلى، حيث أخطأت وكالة المخابرات الأمريكية بين قاربهم وقارب لتجار المخدرات وتم قتلهم، في عملية نفذتها طائرات الهليكوبتر.
وبالإضافة إلى كون هذه الحادثة تشكّل إثباتًا دامغًا على زيف اقتراحات زوليك، التي كانت تزعم بأن اتفاقية التجارة الحرة ستساعد، بطريقة أو بأخرى، على حل فوضى تهريب المخدرات في أمريكا الوسطى، فإن هذه الحادثة ربما هي خير مثال على ما قد ينجم عندما تعمد وكالات إنفاذ القانون الأمريكية إلى إعطاء الأولوية لتبرير الميزانيات الهائلة المخصصة لها، على حساب واجب حماية حقوق الإنسان.
وفي الواقع، عندما يتعلق الأمر بأنظمة مكافحة الجريمة المستوردة من الولايات المتحدة، فعلى ما يبدو، دائمًا ما يُحتجز المدنيون في هندوراس في مرمى النيران المتبادلة، على الرغم من أن البعض يزعم بأنها ليست قضية تبادل إطلاق نار على الإطلاق.
ماريا لويزا بورجاس، الرئيس السابق للشؤون الداخلية لشرطة هندوراس، أكدت لي خلال محادثة في عام 2009، أن الدولة قتلت ما لا يقل عن 3000 شاب خلال فترة رئاسة ريكاردو مادورو من عام 2002 وحتى 2006؛ فبوحي من رئيس بلدية نيويورك السابق رودي جولياني، تصرف مادورو كزعيم عصابة لتطبيق النظام الهندوراسي غير المتسامح مع الجريمة، والذي كان يتميز، كما تقول بورجاس، بتجريم الشباب، وإسباغ لقب “عضو عصابة” بحرية تامة وبدون ضوابط على أي شخص، لتبرير عمليات القتل خارج نطاق القانون.
ووصف أدريان باين، عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي، هذه الحقبة بقوله “حقبة الإبادة الجماعية الخفية، الموجهة بالمقام الأول ضد الشبان العاطلين عن العمل، الذين تم وسمهم بالإجرام من قِبل مجتمع ليس لديه مكان لهم”.
الانقلاب الهندوراسي
وفقًا لوعيد زوليك في عام 2005، فإن التصويت ضد اتفاقية منطقة التجارة الحرة “كافتا”، سينجم عنه “انخفاض الأجور في أمريكا الوسطى، وإغلاق الباب في وجه الرقي الاقتصادي لفقراء المنطقة”، ولكن من الواضح أنه خلال عقد من الزمن إبان التوقيع على هذه الاتفاقية، لم يتم إحراز أي دليل على تحقيق أي مساحة إضافية ضمن المجتمع الهندوراسي الفقير.
هذه النتيجة كان يمكن التكهن بها وتوقعها من قِبل أي شخص أولى اهتمامًا لمراقبة نتائج اتفاقية النافتا “NAFTA”، وهي اتفاقية التجارة الحرة التي أبرمت في عام 1994، ونجم عنها تخفيض الأجور في المكسيك، ورفع معدلات البطالة، كما وأجبرت حوالي مليوني مزارع مكسيكي على هجر أراضيهم، بفضل دعم الصادرات الأمريكية.
وعندما تجرأ خليفة مادورو، مانويل زيلايا، على تحدي المشهد الذي ترعاه الولايات المتحدة في هندوراس، ولو بعبارات خجولة، تم وصفه من قِبل النخبة المتعصبة في هندوراس على أنه شخصية شيوعية متشددة، وألعوبة بيد هوغو تشافيز وفيدل كاسترو، ونجم عن ذلك، الإطاحة به في انقلاب عسكري في 28 يونيو 2009.
ومن بين الانتهاكات التي اُتهم بها زيلايا، رفع الحد الأدنى للأجور في المناطق الحضرية ليصل إلى 290 دولارًا شهريًا، وعدم خنوعه بشكل تام لصناعات التعدين والشركات الأجنبية الأخرى، واقتراحه رفع نسبة المشاركة الديمقراطية لدى المواطنين في هندوراس.
ورسميًا، اُتهم زيلايا بمحاولة انتهاك الدستور الوطني، لمحاولته تعديل المادة 239 من الدستور، التي تحظر إعادة انتخاب الرئيس، علمًا أنه في أبريل من هذا العام، تم تعديل المادة بشكل مريح من قِبل الحكومة اليمينية الحالية، ورئيس الدولة خوان أورلاندو هيرنانديز، الذي لعب دورًا فعالًا في عملية الإطاحة بزيلايا.
من جهتها، بذلت الولايات المتحدة قصارى جهدها في محاولاتها لإضفاء الشرعية على انقلاب عام 2009، في الوقت الذي كانت تحاول به التظاهر بأنها لا تعترف بالانقلاب؛ فبعد مراوغات وتلعثمات أمريكية استمرت لعدة أشهر، للإجابة على السؤال الذي يتمثل بـ “هل ما فعله الجيش في هندوراس يعد انقلابًا عسكريًا يستلزم تدابيرًا مالية عقابية أمريكية أم لا”، اعترفت الولايات المتحدة بالمحصلة بنتائج الانتخابات غير الشرعية في هندوراس، والتي تمت في نوفمبر 2009 من قِبل النظام الانقلابي، وبهذه البساطة، تمت إعادة هندوراس إلى عالم الديمقراطية.
جني المكافآت
عصر ما بعد الانقلاب في هندوراس شهد ارتفاعًا في معدلات جرائم القتل، وارتفاعًا شديدًا في أعمال العنف التي ترتكبها قوات أمن الدولة، التي تعمل في بيئة من شبه الحصانة التامة من المساءلة والعقاب، ومن الواضح أيضًا أن هذه القوى القمعية ذاتها تتطلع لمزيد من التبرعات من الدولة المحسنة الإمبريالية الشمالية، أمريكا.
مؤخرًا، كتبت المؤرخة دانا فرانك في مقالة رأي لها في موقع الجزيرة أمريكا، “على الرغم من انتهاكات هيرنانديز الصارخة لسيادة القانون، وسياساته العسكرية المفرطة، وقمعه للحريات المدنية، بيد أن البيت الأبيض يضغط بقوة بغية منح مساعدات لأمريكا الوسطى بمبلغ يصل إلى مليار دولار، وجم هذا المبلغ، سوف يتدفق إلى هندوراس، بما في ذلك مضاعفة التمويل العسكري بنسبة ثلاثة أضعاف”، وتخلص فرانك في مقالتها للقول “هذا التمويل هو بمثابة مكافأة لهيرنانديز، والنخب الهندوراسية الأخرى، للأزمة التي قاموا بخلقها”.
ولكن تبعًا لكون الأزمة في هندوراس هي أبعد ما تكون عن كونها قد صُنعت في هندوراس، فيبدو أن هناك الكثير من المكافآت التي سيتم منحها تباعًا في المستقبل.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية