يترقب الجزائريون وسائر المُهتمين بالمشهد الجزائري ما ستؤول إليه الأمور مع ارتفاع نسق تواتر الحديث حول اقتراب لحظة التغيير مع تقدم الرئيس الحالي بوتفليقة في السن وتراجع قدراته الجسدية.
وقد توقع مركز “ستراتفور إنتربرايز”، أحد أهم المؤسسات الخاصة التي تعني بقطاع الاستخبارات، ويُطلق عليه في أمريكا اسم “وكالة المخابرات المركزية في الظل”، ويضم ضباطًا وموظفين سابقين في الاستخبارات والجيش الأمريكيين، في دراسة نشرها الشهر الماضي، رحيل الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة عن الحكم خلال الأشهر القادمة، وإعلان الجزائر عن خليفته، على عكس ما أعلنه ديوان الرئاسة، الأسبوع الماضي، بأن الرئيس بوتفليقة مستمر في الحكم حتى 2019.
ولئن بات الحديث عن خليفة بوتفليقة دارجًا بشكل شبه يومي في السنوات الأخيرة، إلا أن الاهتمام في الفترة الأخيرة انصب حول نظام ودولة ما بعد تفليقة؛ بين الديمقراطية والتوريث من جهة، وبين الانفتاح ومواصلة الاستئثار بالحكم من قِبل النظام الحالي من جهة أخرى.
توجه نحو مواصلة الانغلاق
تعهد الرئيس الجزائري بوتفليقة، تحت هاجس امتداد ثورات الربيع العربي لبلده، بالمضي في إصلاحات دستورية توفر بعضًا من تطلعات المعارضة بالحرية والديمقراطية، وقد انطلق الحراك الفعلي في علاقة بتحوير الدستور سنة 2014، ثلاث سنوات بعد وعد بوتفليقة، عبر عدد من المشاورات واللقاءات التي أدارتها رئاسة الجمهورية الجزائرية، وقد تضمنت مقترحات التعديل 47 مادة تتعلق بالتداول الديموقراطى على السلطة ومبادئ السلم والمصالحة الوطنية وحماية الاقتصاد الوطني والمساواة بين الرجل والمرأة وحرية ممارسة الشعائر الدينية وحرية الصحافة وتحديد الولاية الرئاسية إلى واحدة من خمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة فقط مع زيادة صلاحيات الوزير الأول (رئيس مجلس الوزراء) ومهامه، وإبقاء قيادة القوات المسلحة ووزارة الدفاع ورسم السياسة الخارجية في يد الرئيس، فضلاً عن صلاحية أعضاء مجلس الأمة (مجلس النواب الجزائري) باقتراح مشاريع قوانين للأحكام الدستورية الجديدة، وشملت كذلك محاربة الرشوة والفساد ومنع تأسيس الأحزاب السياسية على أساس ديني أو لغوي أو عرقي أو جنسي أو مهني أو جهوي.
ورغم هذا الجهد الماراثوني، يبدو أن “حمى الدستور” أفلت في الجزائر، ويبدو أن وعود الانفتاح، حسب بعض الملاحظين، بدأت بالتراجع باعتبار إسقاط هذا الملف من أجندات السلطة الحاكمة دون تحديد سقف زمني لغلقه، وهو ما تجلى في إهماله خلال أغلب محطات الأحزاب الحاكمة الأخيرة، جبهة التحرير والتجمع، وهو ما تجلى أيضًا من خلال ضمور ذلك الإلحاح الذي ميز سلوك المعارضة في العلاقة بهذا الملف.
إن التراجع الصامت عن وعود الإصلاحات الدستورية يعني ببساطة التراجع عن الرغبة في الانفتاح، بل إن كل الحديث عن تحقيق انتقال نوعي في نظام الحكم وتعصيره لم يعد أحد المواضيع المطروحة بين أركان النظام.
مؤتمرات الأحزاب الحاكمة كشفت مرامي النظام
انعقد خلال هذه السنة مؤتمر الأفلان العاشر (جبهة التحرير الوطني) أيام 28 و29 و30 مايو الماضي، ليثبت عمار سعيداني زعيمًا له، وتزامن أيضًا مع تغيير على مستوى قيادة التجمع الديمقراطي من خلال إزاحة عبدالقادر بن صالح رئيس مجلس الشورى.
وقد ذهبت بعض التحليلات إلى أن ما حصل بالتزامن في الحزبين الحاكمين اندرج في سياق إعادة هيكلة حزبي السلطة، وتطهيرهما من كل أشكال المعارضة، تحديدًا داخل جبهة التحرير، بإبعاد ما بقي من “الزعامات التاريخة” عبر سلسلة من الانقلابات الداخلية والتصحيحيات التي أقصت ما كان يسمى بالأسرة الثورية، وسمحت بتسلل القوى الممثلة للمال والأعمال إلى معظم مفاصله.
وأجمعت جل القراءات أن السلطة الحاكمة اختارت أن تحرك لعبة الشطرنج في حزبيها في اليوم نفسه، كرسالة تؤكد من خلالها أنها تمسك بكل خيوط اللعبة، وأن تثبيت سعداني وإعلان الدعم “الرئاسي” له، وتصعيد أويحيى هو تحضير لمرحلة مقبلة، خاصة في ظل استمرار الحديث عن انتخابات رئاسية مبكرة، يعلن عنها الرئيس بوتفليقة قبل نهاية العام الحالي، وبالتالي وجود سعداني الذي لا طموح رئاسيًا له على رأس “جبهة التحرير” وإعادة أويحيى الذي أبعد عن الواجهة بسبب طموحاته، مؤشر على ترتيبات يتم التحضير لها.
افتقار المعارضة لزعامة حولها إجماع
من جهة أخرى، تعاني المعارضة من افتقارها لشخصية اعتبارية جامعة يمكنها أن تزاحم وأن تكون مؤهلة لقيادة نظام حكم رئاسي، كما أنها ورغم محاولات التجميع المختلفة (مجموعة العشرين والقطب الوطني)، ظلت عاجزة عن تشكيل قطب سياسي ضاغط، قادر على فرض التغيير عبر الصناديق أو عبر الشارع.
فمنذ تولي بوتفليقة الحكم، تمكنت السلطة من إغلاق كافة المنافذ الإعلامية والسياسية أمام هذه المعارضة، وشيطنة الانتماء إلى الأحزاب، وتلميع شخصية الرئيس، وتقوية مؤسسة الرئاسة على باقي مؤسسات الدولة، وتغييب المعارضة عن القرارات الهامة في البلاد.
وما يزيد من ضعف المعارضة، هو ضعف أدائها السياسي بشكل عام، وغلبة الحساسيات الشخصية لأطرافها، وتبادلهم الاتهامات، وعجزهم عن الالتفاف على أرضية واحدة تساهم في نجاح المجموعة، بالإضافة إلى أن سياسة السلطة طيلة السنوات الماضية استهدفت بشكل أساسي تدمير وإضعاف المعارضة، وتشتيت صفوفها، وإغراء بعضها مثلما حدث مع حركة مجتمع السلم المحسوب على الإسلاميين.
هذه العوامل مجتمعة أضعفت المعارضة، وجعلتها عاجزة عن الوقوف على رجليها، لمواجهة سلطة تغولت واستحوذت على كل مداخل ومخارج الفعل السياسي في البلاد.
في المُحصّلة، يمكن أن نستنتج أن فرصة تحقيق تغيير حذر على الشاكلة المغربية ضاعت بحكم غياب إرادة السلطة وضعف قدرة المعارضة وأن غياب البديل الذي لم يُشكّل أو لم يُسمح بتشكيله، سيدفع النظام لإعادة إنتاج نفسه دون الحاجة للبحث عن بعض المشتركين تخفيفًا لضغط ليس مقلقًا.
وفي السياق ذاته، تلعب المعطيات الإقليمية لفائدة النظام، فداعش التي باتت على الأبواب والصورة القاتمة التي ارتبطت بالتغيير في جل الأقطار العربية ستدفع الناخب الجزائري وصاحب القرار الدولي يُفكر ألف مرة قبل البحث عن تعديل في المشهد لنقطة الارتكاز المتبقية في الشمال الأفريقي.