ترجمة وتحرير نون بوست
في فجر يوم الخميس الماضي، باشرت الدولة الإسلامية (داعش) هجومًا مباغتًا على مدينة كوباني السورية التي تقطنها أغلبية كردية، والواقعة على الحدود السورية – التركية، وابتدرت الهجوم بتفجير سياراتين مفخختين، وهو الحدث الذي تمت تغطيته بشكل فوري وحصري من قِبل وكالة الإعلام الرسمية التركية، الأناضول.
من الناحية العملية، فإن هذه التغطية الفورية والحصرية التي تمتعت بها وكالة الأناضول، عائدة إما لقيام عناصر داعش بتوفير تغطية حية للوكالة، أو لمصادفة كون مراسل الوكالة يتجول في أرجاء شوارع كوباني عند الفجر.
السيارتان المفخختان انفجرتا بالقرب من المعبر المؤدي إلى المدينة التركية مورستبينار، وادعى سكان هذه المدينة والنشطاء الأكراد أن المهاجمين دخلوا عبر الحدود، رغم أنها مراقبة ومحروسة بشكل مكثف من على الجانب التركي.
هذه الحادثة، ومزاعم التواطؤ التركي، تعكس واقعًا أوسع، بزغ منذ اندلاع الثورات في الشرق الأوسط، وهو واقع تضطلع فيه الجهات الفاعلة من غير الدول بفتح المعارك وصياغتها، مع إذعان الدول لهذه الرغبة.
الوكلاء ومناطق الحكم الذاتي
أصبح واضحًا بالنسبة للحكومة العراقية أن الجيش العراقي، المدرّب أمريكيًا، غير قادر على مواجهة داعش، وبذات الوقت، أثبتت قوات الحشد الشعبي العراقية محورية دورها في المعركة ضد تنظيم الدولة.
أما على الجبهة السورية، فقوات النظام، التي اُستنزفت وأُنهكت قواها في خمس سنوات من القتال، باتت غير قادرة على مواجهة عناصر التنظيم، وبدلًا من ذلك، يتم دعم قوات النظام السوري من قِبل قوات الحزب اللبناني الشيعي المتشدد، حزب الله، والميليشيات الأخرى التي قدمتها إيران للنظام السوري الحليف، ومن ناحية أخرى، استطاعت القوى الكردية تغيير مجرى الأحداث من خلال انتصاراتها الإستراتيجية المتتالية ضد قوات داعش.
جميع ما تقدم، يعني أن مستقبل المنطقة وحقبتها الجديدة تصوغه وتشكله جماعات غير حكومية “أشباه الدول”، يرابطون على خطوط المواجهة الأولى، ومن خلال صياغة المستقبل، ليس بالضرورة أن تكتسب أشباه الدول هذه سلطة الحكم الذاتي أو سلطة مؤسساتية، بل من المرجح أن النجاحات التي ستحققها هذه الجماعات، سوف تساعد فقط على تحديد القوة الإقليمية المنتصرة، ومكان تحقيق هذه الانتصارات.
ولكن، إذا كانت الجماعات من أشباه الدول هي التي تشكل المعارك، وتصوغ مستقبل المنطقة، فلماذا إذن ينتمي المستقبل إلى القوى الإقليمية، أي إلى الدول؟
في الحقيقة لا يمكننا الإجابة على السؤال إلا من خلال فهم السياسات التي تحكم العلاقة ما بين الدول وأشباه الدول.
الجماعات من غير الدول “أشباه الدول” في منطقة الشرق الأوسط لا تعمل خارج منظومة الاقتصاد السياسي للدول الحقيقية، كون تدفق رؤوس أموال الحرب يتم أساسًا من خلال الأنظمة والمؤسسات التي تديرها الدولة، وفي أوقات الحرب، يتم الاحتفاظ بسوق الحرب السوداء وشركات الحرب الخاصة على هامش اقتصاد الحرب، إلا إذا كانوا يمارسون نشاطهم بشكل غير مباشر تحت موافقة مخابرات الدولة.
الجماعات من أشباه الدول تعتمد بشكل كبير على رعاية ودعم الدولة، والعلاقة ما بين هذين المكونين تحكمها قواعد تأجير الخدمات، حيث تعمل أشباه الدول على أرض الواقع بطريقة تمرر بها مصالح الدول الراعية لها، وهذا الدور، يُعرف باسم دور الوكالة، وهو الدور السائد بشدة في منطقة الشرق الأوسط في عصر ما بعد الربيع العربي.
ولكن المدى الذي تتمتع به أشباه الدول باستقلالية الحكم الذاتي ضمن دور الوكيل الذي تلعبه في المنطقة، يختلف من مجموعة إلى أخرى، ومن سياق إلى آخر، ومع ذلك، تتمتع الجماعات من أشباه الدول بالحكم الذاتي عمومًا ولكن بمستويات متفاوتة، وذلك بفضل حقيقة حاجة الدول إلى وجودها.
حقبة أشباه الدول
تميزت سلسلة الثورات التي بزغت في العالم العربي براديكاليتها، وبالتالي كان يجب على حركة مكافحة الثورات “الثورات المضادة” أن تكون راديكالية بشكل مماثل لتستطيع احتواء وقصم ظهر هذه التحركات، وانطلاقًا من هذا الفهم للديناميات الثورية، ظهرت العديد من المجموعات من غير الدول التي تسعى لاستمالة التعبئة الجماهيرية، وتمهد الطريق لحصر المنافسات الدولية والتسابق الإقليمي، ضمن الحدود الداخلية للدول.
وبعبارة أخرى، تمت موازنة أزمة الشرعية التي تواجهها دول المنطقة عن طريق شرعنة المجموعات من أشباه الدول؛ فالملك الأردني يعول في حكمه على الولاء القبلي، والنظام السوري، وكذلك العراقي، يعتمدان على الحشود والمنظمات الطائفية، والنظام اللبناني يعول على الأحزاب الطائفية، ودول الخليج تستعين بوكلاء لها على أراضٍ سورية وغيرها من الدول.
وفي الواقع، حقيقة أن الدول تحتاج إلى وكلاء من أشباه الدول على الأرض أكثر من أي وقت مضى، يعطي هؤلاء الوكلاء بعض القدرة على المساومة على جداول الأعمال والعمليات السياسية، حيث تلعب بعض هذه الجماعات على وتر التنافسات والتناحرات الدولية الإقليمية بغية تحقيق مصالحها، وضمن هذا السياق، تتشكل العلاقات الديناميكية ما بين الدول وأشباه الدول.
الدولة الإسلامية أو دولة أشباه الدول
نظرًا للنطاق الجغرافي الواسع للكوكبة السياسية التي تتبع هذه الإستراتيجية، من ليبيا إلى العراق، اطردت الصعوبات التي تواجهها الدول للسيطرة على الأرض، مخلفة وراء ضعفها هذا، خطرًا وشيكًا متمثلًا بتحدي أشباه الدول للفوضى المنظمة التي ترعاها الدول.
ومن هذه الرؤية، برزت داعش كجماعة مناهضة لمفهوم الدول القائمة، وادعت سعيها لتدمير جميع الأنظمة القائمة في المنطقة، وقامت بتأدية هذا الدور بإتقان لا نظير له، لدرجة أجبرت فيها الدول المتنافسة إقليميًا على العمل سويًا؛ ففي يوم الخميس، دعا بوتين أوباما لمناقشة سبل تحسين التعاون في الحرب ضد داعش، ومن المتوقع أن يجتمع كيري ولافروف قريبًا لتحقيق هذه الرؤية، ولذات السبب، يتقاسم أعضاء الميليشيات الشيعية، الذين شبوا وهم يهتفون “الموت لأمريكا”، قاعدتهم العسكرية مع القوات الأمريكية في العراق، كما أن جمهورية إيران الإسلامية تهرع لصياغة الصفقة النووية مع الشيطان الأمريكي.
كل هذا حصل عندما تمكنت داعش، باعتبارها مجموعة تشكل شبه دولة، من إنشاء هياكل سياسية واقتصادية واجتماعية مستقلة إلى حد كبير عن هياكل الدولة السورية والعراقية، بشكل أصبحت فيه قادرة على تفكيك فهمنا لمعنى الدولة، ومن خلال بزوغ الدولة الإسلامية كشبه دولة مستقلة عن رعاية الدول، تثور أسئلة عديدة تتعلق بالمدى الذي تستطيع فيه الدول المحافظة على أشباه الدول تحت كنفها، ومتى سترى هذه الجماعات من أشباه الدول أن مصالحها تتحقق بشكل أفضل دون رعاية الدول لها.
البدائل الشعبوية
بشكل عام، سيعمل اطراد اندماج أشباه الدول ضمن الوضع الراهن في المنطقة، على تهميش مصالح المجتمعات العربية والمطالب الثورية العربية بشكل متزايد، وللخروج من هذا المأزق، يجب على الشعوب العربية ارتجال المبادرات الشعبوية بشكل منظم، ونزع الشرعية عن حروب الوكالة والخصومات الإقليمية.
علمًا أن مقاومة الدول وأشباه الدول لهذه الجهود، ستشكل صعوبات إضافية سيواجهها النشطاء والثوار الذي سيسعون لتحقيق هذا التنظيم الشعبوي في جميع أنحاء المنطقة.
المصدر: ميدل إيست آي