تُعد عملية اغتيال النائب العام المصري واحدة من أكثر عمليات الاغتيال السياسي غموضًا في تاريخ مصر الجمهورية، بالإضافة إلى أنها الأولى منذ عقود في استهداف منصب سياسي كبير في الدولة، أضف إلى أن أهمية هشام بركات لا تأتي من منصبه كرئيس للادعاء العام وأحد أعضاء مجلس القضاء الأعلى، بل في كونه أحد أبرز أركان النظام الذي جاء عن طريق الانقلاب العسكري في 2012، واتخاذه لقرارت عُدت الأولى في تاريخ مصر، أبرزها قرار فض اعتصامي رابعة والنهضة الذي راح ضحيته الآلاف بين قتيل وجريح ومفقود، وتدبيره القضايا لمعارضي الانقلاب التي أوصلت عدد كبير منهم إلى منصة الإعدام، ولهذه الأهمية فإن التساؤل يثار حول من قتل النائب العام؟
عملية البحث عمن يقف وراء الاغتيال تقودنا إلى خمسة فواعل وجهت لها الاتهامات بطريقة متعاكسة، هذه الفواعل تتمثل بجماعة الإخوان المسلمين، تنظيم داعش عبر “ولاية سيناء”، الجماعات الجهادية، بعض بقايا مافيات نظام مبارك التي تنافس السيسي في الخفاء، والرابع نظام عبد الفتاح السيسي نفسه.
الفواعل خارج النظام
لا تجد الاتهامات الموجهة إلى جماعة الإخوان المسلمين ما يقويها من الأدلة؛ فقد أدانت العملية وحمّلت نظام السيسي مسؤوليتها، كما أن الجماعة التي تتصدر معارضة الانقلاب الذي أودى بحكمها، ظلت وبالرغم من كل محاولات جرها للعنف ثابتة في تفضيل الخيار السلمي للمعارضة، فإزاء قتل أعضاءها وتجميد ممتلكاتها وإيداع قياداتها في السجون وأحكام الإعدام التي صدرت بحقهم بالجملة، إلا أنها ظلت تعارض بشكل سلمي خلال العامين السابقين، ناهيك عن أن الجماعة لا تمتلك الخبرة الأمنية والعسكرية التي تؤهلها لاختراق منطقة محصنة كالتي قُتل بها النائب العام ولا أن تنفذ عملية بحجمها، لذا فإن اتهام الجماعه بالاغتيال ليس إلا اتهامًا معلبًا لا أساس لصحته.
أما تنظيم داعش فإن ساحة عملياته المعروفة هي “ولاية سيناء” ولم يسجل له نشاطًا أو عمليات في مناطق أخرى من مصر، كما أنه ليس طرفًا في الصراع الدائر في مصر بين الانقلاب ومعارضيه، إذ إنه يعتبر كل من النظام ومعارضيه من الإخوان وغيرهم من الثوريين ليس إلا صراعًا بين “مرتدين” وبذلك فإنه يستبعد أن يكون ضالعًا في العملية، فضلاً عن عدم تبنيه لها، كما أن الطرف الآخر الذي يوجه له الاتهام فهو الجماعات الجهادية من غير تنظيم داعش، فالمعلومات الواردة حول قيام بعض الجماعات الجهادية باستئناف الإعداد والتدريب واستغلالها للبيئة المساعدة بعد انتكاسة المسار الديمقراطي، يستبعد أن تكون وراء الاغتيال، فهذه الجماعات لم تتبلور في كيانات واضحة كما لم يسجل لها نشاط عملياتي حقيقي على الأرض وحتى حقيقة وجودها تبقى مجرد معلومات لم تؤكد، ومثل هذه الجماعات لا يمكن التسليم بأن تكون وراء عملية بحجم عملية اغتيال النائب العام.
الفواعل من داخل النظام
يبقى الصراع الخفي بين نظام السيسي وبعض بقايا نظام مبارك التي تمثل أطراف صلبة داخل السلطة لم يستطع السيسي إلى الآن القضاء عليها بشكل كامل، تبقى أطراف تعبر عن صراع أجنحة داخل السلطة بخفاء؛ وبالتالي فإن مثل هذه الأطراف قد تكون ضالعة في اغتيال النائب العام كحالة تعبير عن ذلك الصراع غير الواضح وعلى اعتبار النائب العام أحد أركان منظومة السيسي داخل الدولة، هذه الاحتمالية قد يكون لها من المؤشرات التي تؤكدها، لكنها في النهاية تطرح التساول حول قدرة مثل هذه الأطراف على الدخول في لعبة صفرية مع السيسي واغتيال أحد أركان حكمه، والجواب عن هذا التساؤل يضعف هذا الاحتمال رغم أنه لا ينفيه.
إلا أن هناك العديد من المؤشرات التي تشير إلى أن عبد الفتاح السيسي قد يكون وراء عملية اغتيال النائب العام، في تعبير عن حالة “الانقلاب يأكل أبناءه”.
أولى المؤشرات التي قد تحمل إدانة للسيسي ونظامه هي حالة الغموض التي تكلل العملية، فالعملية التي جرت في منطقة شديدة التحصين، ارتبكت الجهات الرسمية في إعلان تفاصيلها؛ إذ إنها أعلنت أنها بعبوة ناسفة شديدة الانفجار، وهو لا يتوافق مع القوة التفجيرية، لتعلن لاحقًا أنه تم بسيارة مفخخة، الأكثر غرابة هو إعلان وزارة الصحة أن النائب العام أُصيب بقطع أنفي وخلع في الكتف، ليعلن لاحقًا عن وفاته بطريقة غامضة، وبالرغم من أن الانفجار تسبب في إحراق 10 سيارات إلا انه لم يصب في العملية إلا 6 من أفراد الشرطة أحدهم سائق النائب العام، وهو لا يتناسب مع حجم الانفجار وآثاره التدميرية، كما أن العملية لم تتبناها جهة معروفة، بل تبناها تنظيم غير موجود في تشابه مع الطريقة التقليدية التي تعتمدها أجهزة المخابرات في تلفيق عملياتها.
وليس من سبيل الصدفة أن هشام بركات كان واحدًا من أربعة شخصيات دبرت عملية فض اعتصامي رابعة والنهضة في 2012، إلى جانب السيسي وحازم الببلاوي ومحمد إبراهيم، وإذا كان السيسي قد تخلص من الببلاوي ومحمد إبراهيم بإقالتهما بعد أن فشلت عملية اغتيال الأخير بشكل مشابه لعملية اغتيال هشام بركات، فقد يكون الأخير امتدادًا لهم.
خطاب السيسي في تشييع النائب العام يحمل الانطباع حول أن اغتياله كان الخطوة الأولى في مخطط معد له، إذ إنه تحدث بشكل مركز على إلغاء القانون وإعلان الأحكام العرفية والمحاكم الاستثنائية، في تشابه مع الحملة الإعلامية التي أعقبت اغتيال النائب العام مباشرة بالمطالبة بإعلان الأحكام العرفية، وهو ما يعطي الانطباع بأن الأمر مرتب وفق مراحل.
اغتيال النائب العام يمكّن السيسي أيضًا من إعادة توزيع المناصب وتحقيق منظومة خالصة من صراع الأطراف؛ فالسيسي ما زال في مواجهه وإن كانت خفية مع بعض الشخصيات من نظام مبارك، ولم يستطع بالرغم من سياسة القمع المفتوح التي يرتكبها من وضع حد لنفوذهم داخل الدولة وبالتالي فإن مثل هذه العملية تجعل من السيسي قادرًا على إعادة تشكيل منظومة حكمه بشكل تدين له بالولاء المطلق.
وإزاء هذا الغموض الذي يدور حول اغتيال النائب العام، فإن هذه العملية تتشابه على نحو مدهش مع تصفيات شخصيات سياسية في سوريا من داخل نظام الأسد، فهي تشبه من حيث التأثير تفجير مبنى الأمن القومي السوري الذي أودى بجميع أعضاء خلية الأزمة التي كانت تنظم أركان الحكم الرئيسية، تلك الحادثة التي حملت وقعًا شديدًا على المستوى الإقليمي والدولي وأعطت مؤشرًا لانهيار نظام الأسد تبين لاحقًا أن الأخير نفسه هو من دبر التفجير لإعادة ضبط منظومة سلطته.
بذلك فإن عملية اغتيال النائب العام هي كما عملية اغتيال خلية الأزمة السورية تعبر عن حالة من الغموض حول تغيرات داخل منظومة الحكم ظلت حبيسة الكتمان وطويت ضد مجهول، وبالرغم من فداحتها إلا أنها تظل واردة في جمهورية الخوف التي تأكل أركانها.