جاءت الذكرى الثالثة لانقلاب يونيو الذي قاده الجنرال عبد الفتاح السيسي على حكم الإخوان المسلمين والتي تتزامن مع تأكيد القضاء المصري وتصديق الإفتاء المصري على أحكام إعدام تطال الرئيس السابق مرسي والمرشد والعديد من القيادات، ومما لا شك فيه أنه من السهل لنا أن نلاحظ أن إستراتيجية الإخوان المسلمين في إدارة الصراع ضد الانقلاب العسكري قد باءت بالفشل، إن السلمية المفرطة التي ينتهجها معارضو الانقلاب العسكري التي وئدت منذ فض اعتصام رابعة قد اُختزلت في آخر الأمر في مربع صغير أسفل الشاشة في نشرة عابرة على قناة الجزيرة يوم الجمعة، وإن كانت الحياة قد اقتضت ألا يكون النصر حليف من يوجه الضربات بل من يتحملها، كما يرى الرافعي، فالسياسة لا تقتضي ذلك بالضرورة وإن كان غاندي قد نجح في درء المستعمر دون أن يطلق رصاصة واحدة إلا أنه لم ينجح في ذلك لأنه كان سلميًا فقط ولأنه على أقل تقدير لم يكن يقف وحيدًا وحائرًا بل ومشتتًا مثلما يقف الإخوان اليوم، وربما يحق لنا أن نتساءل بعد مضي ثلاثة أعوام على الانقلاب إن كانت السلمية لا تجدي فلماذا لا يتخلى الإخوان عن سلميتهم إذا؟
إن ما نريد معرفته حقًا هو ما الذي يربط الإخوان المسلمين بالدولة القومية الحديثة وأن ندرس تجربة الإخوان المسلمين في حمل السلاح تاريخيًا لفهم إصرارهم على التمسك بالسلمية كما لو أنها طوق النجاة الوحيد بالرغم من استباحة الدماء والأعراض والقتل وكشوف العذرية، وبالرغم من نصب المشانق والاعتقالات التي بلا تهمة، وبالرغم من الاستهانة بقيمة الإنسان، وبالرغم من الحياة العارية التي يعيشها المعتقلون.
نشأت جماعة الإخوان المسلمين في العالم العربي وبدأت تنمو وتتطور جنبًا إلى جنب مع كيانات ما بعد كولونيالية التي سميت دول عربية قومية حديثة، وكانت هذه النشأة محاولة نوعية لحل مشكلة غياب الاجتماع السياسي بعد سقوط الخلافة، ثم تكيفت الجماعة مع الدولة وأصبحت جزءًا حرجًا من بنيتها وكينونيتها الاجتماعية والسياسية؛ مما أدى لتأثرها الشديد بتطور الدولة ونموها، واليوم حين تشهد هذه الدول المحدثة الممسوخة تراجعًا أمام الاندفاع الهوياتي القائم على أساس أيديولوجي أو تحت مظلة الهويات الطائفية، فإننا لا يمكن إلا أن نلاحظ تراجع دور الحركات الإسلامية المنخرطة في هذه الدول أو غيابها.
لقد أسس الشيخ حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين لحل أكبر مشكلة واجهت المسلمين بعيد سقوط الخلافة ألا وهي غياب الاجتماع السياسي الإسلامي، وبالرغم من أن الجماعة استطاعت أن تقدم الكثير على الصعيد الاجتماعي، إلا أنها لم تقدم ما يمكن التعويل عليه سياسيًا، لقد عرفت الجماعة حراكًا سياسيًا، بل إن الإمام سبق وأن ترشح بنفسه للانتخابات البرلمانية وعقدت الجماعة تحالفات سياسية بل ونظمت مظاهرات واحتجاجات واسعة وكان لها ما كان من المخاطبات السياسية مع الملكية الحاكمة ورئاسة وزارتها خصوصًا في المرحلة التي كان تغول المستعمر الإنجليزي ماثلاً للعيان ولا يخفى على أحد وفي الوقت الذي شكلت فيه الجماعة توازنًا سياسيا للوفد، إلا أن الإمام البنا لم ينظر أو يقدم تصورًا كاملاً لحكم إسلامي أو لكيفية إعادة تشكيل حكم إسلامي، ولم يقدم موقفًا واضحًا سواء من الملكية أو الدولة الحديثة يمكن البناء عليه.
لقد امتازت الشخصية السياسية للبنا بالآنية والتخطيط للحظة الراهنة، لقد كانت تجربة البنا السياسية تمتاز بالمرونة والدينامية لأن الجماعة في ذلك الوقت كانت لا تزال في طور التكوين.
لم يدم الوقت طويلاً حتى انهارت هذه العلاقة ونشبت قطيعة طويلة بين الإخوان والدولة، على إثر خروج النظام الخاص عن السيطرة في الحقبة التي حصلت فيها حادثتي اغتيال الخازندار والنقراشي وقضية الجيب السوداء التي بدأت بحل الإخوان وانتهت باغتيال البنا.
لم يكن امتلاك الإخوان لجناح مسلح أمرًا مستهجنًا في تلك الحقبة حيث كانت الحركات والأحزاب فصائل مستقلة عن إرادة وسلطة الدولة التي لم تكن قد اكتملت كدولة ذات سلطات متعددة ومنفصلة ولم يكن المجتمع منظمًا بعقد مدني واضح، لقد كانت الدولة لا تزال ما بعد كولونيالية – دولة ما بعد استعمارية – إلا أن النظام الخاص كان مستقلاً بشكل تام عن إدارة ودراية الإمام البنا، ولا يمكن لوم البنا على أنه لم يكن يريد بناء جماعة تعتمد بالكلية على شخصه، بل إن الإمام البنا كان قد صرح في أحد رسائله بأن الإخوان المسلمين لا يفكرون بالثورة ولا باستخدام القوة في أي شأن سياسي، بل وحذر في السياق ذاته من مخاطر قيام الثورة وتداعيات استعمال العنف.
لقد كان الهدف الأول من إنشاء الجهاز الخاص هو حماية الدعوة من أعدائها في الداخل والخارج وهم بحسب أديب الإخوان الكبير الأستاذ القدير جابر قميحة، اليهود الذين كانوا قد بدأوا يتوافدون إلى فلسطين، والإنجليز في مصر الذين يطبقون على كل شيء ويهيمن عساكرهم على كل مفاصل الحياة السياسية والأمنية، إلا أن تبعية الحكومة المصرية والقضاء للمستعمر أثر في الشباب المتحمس الذي لم يحظ بالتوجيه الواعي والراشد لاستخدام العنف، ونتيجة لتفرد عبد الرحمن السندي في إدارة الجهاز دون الرجوع لأحد؛ فقد دفعت الجماعة وعلى رأسها الإمام الشهيد الثمن غاليًا.
وعلى الرغم من المحنة التي كان الإخوان يعانون منها في الداخل المصري إلا أن كتائب الإخوان المسلمين من مصر والأردن وسوريا قد شاركت في الحرب ضد اليهود في 48، ومن الجدير بالذكر أن الإخوان المسلمين قد حاربوا ضد المستعمر الأجنبي وأن الموروث النظري للإخوان المسلمين كان واضحًا ومحددًا فيما يتعلق بقتال المحتل وجهاد الدفع بقدر ما كان غائبًا موقف الجماعة من العنف تجاه تغول الدولة أو ما عرف فيما بعد بالعدو القريب في الأدبيات العامة للحركة الجهادية العالمية.
أعوام قليلة تلك التي تلت اغتيال البنا حتى قام انقلاب 52 يوليو الذي أنهى الملكية في مصر وبدأ عصر العسكر، وبالرغم من أن الإخوان قد شاركوا بفاعلية في الانقلاب، إلا أن حقبة جديدة حملت المزيد من التدهور بين الإخوان والدولة تجلت في موقف سيد قطب من الدولة الحديثة أو بعبارة أدق تجاه مركزية السلطة، ويمكن القول بأن سيد لم يكن أناركيًا في نقده للدولة إنما كان له موقف من تمركز السلطة وتجسدها في شخص عبد الناصر الذي أصبح ربًا يُعبد من دون الله واستخدام الفلسفة السياسية للديمقراطية التي تنادي بحكم الشعب للشعب لاستهداف القيم الإسلامية للشعب المصري.
إن موقف سيد قطب هو أوضح موقف في تاريخ الجماعة تجاه الدولة الحديثة ومفرزاتها والذي دفع سيد قطب ثمنًا له حياته.
في بداية السبعينيات وفي فترة الإصلاح السياسي للسادات خرج الإخوان المسلمون من السجن ولم يكن أمامهم سوى خيار واحد فقط هو الإصلاح من داخل منظومة الدولة نفسها وهو الذي تجلى فيما بعد بإقبال الإخوان والحركات التي خرجت عن أطرها التقليدية على الترشح للسلطة في عصر الربيع العربي لقيادة مشاريع إصلاحية تعتمد على الدولة القومية الحديثة.
إذا وكنتيجة هامة لهذا الاستطراد الاستقصائي الطويل يمكننا القول بأن الإخوان قد ذاقوا مرارة حمل السلاح ودفعوا أثمانًا غالية نتيجة لاتخاذ الكفاح المسلح وأبرزها هو تفكك الجماعة الذي يناقض أحد أهم سياسات الإخوان بعد الخروج من الاعتقالات السياسية ألا وهو البقاء مهما كلف الثمن، ثانيًا يمكننا القول أيضًا إن الإخوان يهمهم أيضًا الحفاظ على مؤسسات وبنية الدولة الحديثة التي تشكل بالنسبة لهم السبيل الوحيد المتبقي للوجود الحقيقي للإسلام السياسي ولتحقيق المنشود الذي نشأت الجماعة لأجله وهو إحياء مشروع الخلافة أو أستاذية العالم بتعبير الإمام البنا؛ الأمر الذي يجعل فكرة حمل السلاح مستبعدة تمامًا مهما كلف الأمر حفاظًا على تماسك الدولة جغرافيًا وحتى لا تنهار مؤسساتها الرئيسية، وحفاظًا على الجماعة من الزوال مثلما حدث في سوريا بعد أحداث حماة الدامية.