“عندهم تناقض بين العلم والدين، عندنا لا يوجد تصادم بين العلم والدين”، هكذا ختم الداعية الدكتور طارق السويدان حلقته الرمضانية في برنامج “قصة وفكرة” بعنوان الخطأ المقدس، مدعيًا أن في الغرب تنافرًا بين العلم والدين بخلاف الأمر عند المسلمين.
يسوق السويدان قصة برونو وغاليليو واضطهاد الكنيسة لهما في مطلع القرن السابع عشر وكيف أن العلم انتصر على الكنيسة في نهاية المطاف، مشددًا على أن الانتصار سيكون للعلم وليس للانغلاق والتحجر في التفكير والوقوف عند ما وصل إليها السابقون.
عندما استمعت إلى الحلقة، ودعاني إلى مشاهدتها بادئ الأمر عنوانها حول “الخطأ المقدس” وانتابني الفضول لأرى كيف سيعالج الدكتور طارق موضوعًا شائكًا كهذا في خطاب ديني موجه للمسلمين، وأنا أعرف أن السويدان من الشخصيات “التنويرية” إذا ما قورن بغيره ممن يتبوءون المنابر الإعلامية من الدعاة في هذا الأيام، لكني وجدتُ مع الأسف أن كلام السويدان ينضوي على بعض الجوانب التي لا بد من مناقشتها وتسليط الضوء عليها، خاصة فيما يتعلق بالقصتين اللتين أوردهما.
هل حقًا كان هنالك صراع بين الكنيسة والعلم؟
نعم، في مرحلة من المراحل، ولكن ليس الأمر كذلك على إطلاقه في مرحلة غاليليو ومن قبله برونو، تكلم السويدان في بداية الحلقة عن برونو وتعرضه للإعدام المهين حرقًا في إحدى الساحات في روما عام 1600، ولكن ما غفل السويدان عن ذكره عن برونو هي بعض الحقائق التي تساعدنا في فهم الصورة بشكل أفضل وقد استقيتها ولخصتها من كتاب الدين والعلمانية في سياق تاريخي لكاتبه الدكتور عزمي بشارة.
كان برونو متهمًا بالتواصل مع ملوك يهددون الكنيسة ويسعون لتقويض سلطتها، وكان الدليل على ذلك هو إعجابه الكبير ومدحه الوافر الذي ثبت في رسالة وجهها إلى الملكة إليزابيث عدوة الكنيسة في تلك المرحلة، ولا بد كذلك كي نفهم جدلية العلاقة بين الكنيسة والعلماء في تلك الفترة التاريخية أن نفهم أن ما حصل لبرونو قد جاء في سياق صراع سياسي وديني بين الكاثوليكية والبروتستانتية، فقد كان قريبًا من ملك فرنسا المتعاطف مع البروتستانت، وكان يمجد الملكة إليزابيث أثناء إقامته في إنكلترا، وهكذا اجتمعت عليه تهم عديدة قضت أن يلقى المصير الذي لقيه في ذلك العام، ليس أخطرها بالضرورة تصديقه بأفكار كوبرنيكوس، هذا الاضطهاد الديني الذي يرد إلى السياسة يذكرنا بما يعرف عندنا بمحنة ابن حنبل، والتي تناولها الدكتور فهمي جدعان في كتاب له بعنوان (المحنة: جدلية الديني والسياسي في الإسلام) يوضح فيه الجوانب السياسية لقصة اضطهاد أهل الحديث في زمن المأمون، وكيف أن الأمر كان مرده في أحد الجوانب على الأقل إلى خوف المأمون من تمدد سطوة أهل الحديث وقوتهم، وكيف أن دعمه للمعتزلة كان كذلك سائرًا في هذه الإستراتيجية السياسية في الخوف على السلطان من سلطة أهل الحديث.
يشير بشارة في فقرة أخرى إلى أن برونو قد اتهم بالزندقة بسبب أفكاره التي قتل بسببها كثيرون في العالم الإسلامي والمتمثلة بفكرة وحدة الوجود (pantheism)، وهكذا اختلطت لدى برونو أفكار كوبرنيكوس (التي لم تكن الكنيسة تعارضها ولا تخشاها كنظرية رياضية في تلك الفترة) بأفكار صوفية عن الله والعالم، واختلط كل ذلك بالسياسة والصراع بين الكاثوليك والبروتستانت، فكان إعدام برونو.
أما قصة غاليليو التقليدية هذه فإنها كذلك تنزع من سياقها التاريخي دومًا كلما وردت على لسان أحد الدعاة المسلمين لإثبات أن الإسلام لا يعارض العلم بخلاف المسيحية.
لا بد من الإشارة إلى أن غاليليو كان يتخذ موقفًا حاسمًا من عدم وجود تعارض بين العلم والدين وأن نظرياته لا تتعارض مع الكتاب المقدس، وكان يؤكد أن المشكلة تكمن في بعض التفسيرات الخاطئة للنصوص لا في النصوص نفسها، ويذكر عزمي بشارة في كتابه أن من أهم الأسباب التي دعت إلى ملاحقة غاليليو ليس نظرية كوبرنيكوس، وإنما محاولاته في المجتمع لإقناع الآخرين بها، ولهذا كان يكتب بالإيطالية لا باللاتينية منطلقًا من روح التنوير والنهضة التي كان يتمتع بها، كما أن من أهم الأسباب التي جعلت غاليليو في موضع عداء مع الكنيسة هي غيرة بعض الزملاء والفلاسفة في عصره، والقصة طويلة مذكورة في المراجع عن تحالف قام ضد غاليليو ومحاولات طويلة للبحث عن كاهن يدين آراءه كي تحقق الكنيسة معه وتمنع كتبه (رغم إقرار سابق للكنيسة بها).
لا شك أن قصة برونو أو غاليليو تستدعي بالضرورة حالات كثيرة شبيهة لها ولا تخفى على القارئ في تراثنا الإسلامي وتاريخنا المعاصر، ويروق لي أن أذكر قصة عن هارون الرشيد التي أوردها الشيخ سعيد الكملي في إحدى محاضراته تقول إن المحدث أبا معاوية الضرير ذكر الحديث الصحيح المتفق على صحته عن المحاجة التي وقعت بين آدم وموسى التي يقول فيها موسى لآدم: “يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة…” إلى آخر القصة، فقال أحد الحاضرين متسائلًا محتارًا في هذه القصة قائلًا: “أين التقيا؟” (أي آدم وموسى) ففهم هارون الرشيد أن هذا الرجل يشكك في الحديث فأمر بالنطع (قطعة الجلد التي يقطع عليها الرأس) ليقطع رأسه متهمًا إياه بالزندقة (تهمة صديقنا برونو) فقال هارون: “النطع والسيف، زنديق يكذب بالحديث”، وأصر هارون الرشيد على ذلك لولا أن تدخل أبو معاوية الضرير لدى الخليفة ليعدل عن ذلك، المشكلة الكبرى هي أن الشيخ الكملي الذي أورد القصة أوردها في معرض الاستدلال على أهمية عدم الخوض في أحاديث النبي وأهمية الإبقاء على هذا الحاجز المنيع أمام الناس، حتى لو تطلب الأمر قطع الرؤوس!
يعلق بشارة[i] على مقولة إنّ الإسلام لا يتعارض مع العلم قائلًا:
“الحقيقة أن النتائج تشير إلى غير ذلك، لكن الوقائع التاريخية نفسها لا النتائج فحسب تفند ذلك، كان موقف المؤسسة الدينية الإسلامية سلبيًا بشكل عام من كل تجديد علمي، وإلى مرحلة قريبة في القرن العشرين عارض الأزهر تجديده هو علميًا، وعارض حتى فرض احتياطات صحية داخله وقاومها بالقوة، وتطلب استخدام الطباعة فتوى من شيخ الإسلام في عام 1727 في الأستانة بشرط ألا تستخدم في طباعة الكتب الدينية والقرآن بشكل خاص، وما زالت المؤسسة الدينية، ولأسباب مفهومة، تناهض أي تجديد في مجال البحوث الفكرية والفلسفية إذا تطرقت إلى مجال الدين بشكل عام”.
لماذا إذن يكلف السويدان نفسه عناء السفر إلى القرن السابع عشر ليقص علينا قصة غاليليو المنزوعة من سياقها أصلًا؟ أليس هذا التاريخ أولى بالفحص والنقد والمراجعة؟
ثم ينهي بشارة بكلام حاد ورد على لسام الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية في زمانه حين قال لصديق له:
“إن كان لي حظ من العلم الصحيح الذي تذكره فإنني لم أحصل عليه إلا بعد أن مكثت عشر سنين أكنس من دماغي ما علق به من وساخة الأزهر، وهو إلى الآن لم يبلغ ما أريد له من النظافة”.
يعترف سويدان بكل وضوح وجسارة بأن بعض المسلمين يسدون باب الحضارة حين يقفون في وجه العلم، ويقر بأن الكنيسة الكاثوليكية الآن قد تجاوزت هذا الماضي الدموي مع من خالفها وأنها أقامت نصبًا لغاليليو نفسه في الفاتيكان وأعادت الاعتبار التاريخي له كنسيًا، ويذكر في المقابل أن بعض علماء المسلمين ما يزالون حتى اليوم ينكرون نظرية كوبرنيكوس ويؤمنون بأن الأرض ثابتة وأن الشمس تدور حولها، وغيرها من أفكار وممارسات هدامة تعارض العلم عند بعض المسلمين.
إلا أنه يؤكد مرة أخرى بعد ذلك هذه العبارة الممجوجة ويقول”عندهم في الغرب تصادم واضح بين الكنيسة والعلم لكن نحن في الشرق ما عندنا هذا التصادم” وأن المشكلة عندنا تكمن في العقول المتحجرة التي يعاني منها البعض، وفي هذا اختزال وتبسيط لحقيقة الأمر، وهذا لا يساعد أبدًا فيما يبدو أن الدكتور السويدان يسعى إلى تغييره في مجتمعنا.
أعتقد كذلك أنه قد كان أجدر بالسويدان أن يذكر لنا نماذج من تراثنا نحن وأن يقف على أمثلة من الاضطهاد والقمع الرسمي والشعبي (المستمر) لعلماء ومفكرين في عالمنا العربي نحن، فذلك أدعى على التنبيه إلى أهمية فتح أبواب الاختلاف والنظر والتجديد في ذلك في سياقنا المعاصر الآن وخاصة في البحوث العلمية الفكرية في المجال الديني.
———————————-
[i] الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء الثاني المجلد الأول (هامش صفحة 372)