“بئس النوم ذاك الذي في خيام الآباء، تقدموا فإن العالم يسير إلى الأمام”، بهذه الكلمات وما شابهها بث الفيلسوف والثوري الإيطالي جوزيبي مازيني أحد أكثر القادات السياسية إثارة للجدل في التاريخ الأوروبي الحديث، روح القومية والثورة في نفوس أنصاره وشبيبة حركته الثورية “إيطاليا الفتاة” التي انطلقت في أواسط القرن التاسع عشر في أوروبا الدويلات.
كانت جمعية “إيطاليا الفتاة” بداية التجسيد لعصر المنظمات السرية التي نبتت في أوروبا في بيئة خصبة من الدويلات المقسمة وصراعات الإقطاع والكنيسة وأخذت نفس لفظة الفتاة لتبلور فكرة الدولة القومية كبديل منشود وحل منقذ مما آلت إليه أحوال الناس في أوروبا في تلك الفترة من ظلم الإقطاعيين وصراعاتهم مع الكنيسة من جهة ومن تسلط بعض الإمبراطوريات القوية وتحكمها في مآلات الأمور من جهة أخرى.
باتت المنظمات والجمعيات التي تحمل اسم الفتاة في أوروبا رأس حربة المشروع القومي والوطن والأم لكل أبناء هذا العرق أو ذاك، شكلت هذه الجمعيات والمنظمات منعطفًا بارزًا في تشكيل تاريخ الأمم منذ منتصف القرن الثامن عشر وما تلاه وكان له الأثر البارز فيما أصبح ما يسمى اليوم بالدول القومية.
جمعية “إيطاليا الفتاة”
تأسست هذه المنظمة السرية في بدايات العقد الثالث من القرن التاسع عشر في إيطاليا المقسمة في ذاك الوقت إلى أكثر من عشر ممالك ودوقيات: مملكة نابولي، دوقية ميلان، دوقية سوفيا، جمهورية فلورنسا، جمهورية سيينا، جمهورية البندقية وغيرها من مثيلاتها من الدويلات والإمارات التي تقاسمت التراب والشعب الإيطالي، يعتبر جوزيبي مازيني المؤسس الفعلي لحركة إيطاليا الفتاة وكاتب مبادئها وأدبياتها هناك أين نُفي في الجنوب الفرنسي بعد نشاطاته الحزبية وأفكاره المناوئة لمسقط رأسه مملكة جنوة، عُرف بدعوته إلى لم الشمل الإيطالي ومقاومة المحتل النمساوي والمستعمر الفرنسي الذين كانوا يتحكمون بالممالك الإيطالية في ذاك الوقت.
جوزيبي مازيني
بعد عدة سنوات من تأسيسها بلغ مناصروها الـ 60 ألفًا في مختلف ممالك إيطاليا والذين قاموا بعدة ثورات لكنها لم تكلل في البداية بالنجاح، إلا أنها كانت بداية الطريق لتوحيد إيطاليا من جهة وإيقاظ الروح القومية التي تجسدت في منظمات سارت على نفس الفكر والتوجه من جهة أخرى.
جمعية ألمانيا الفتاة
تشاركت هذه المنظمة مع جمعية إيطاليا الفتاة ذات الأهداف والتوجهات من سيادة الروح القومية والمطالبة بتوحيد مختلف الممالك والبقاع ضمن إطار الدولة الواحدة القومية لكل أبناء العرق ذاته، لكنها اختلفت مع جمعية مازيني في طبيعية هيكليتها وطرق تحقيق بُغيتها؛ فالمنظمة كانت التقاء مجموعة من النخب الفكرية والثقافية وأرباب الأقلام الألمانية البارزة في ذاك الوقت أمثال ثيودور موندت وكارل غوتسغوف وجورج بوشنر وغيرهم من الكُتاب والمسرحيين الألمان الذين أسسوا جمعيتهم على أساس من المقالات والكتب الداعية إلى الوحدة والدولة ولم الشمل الألماني.
كارل غوتسكوف
كان الطابع العام للمنظمة بعيدًا عن طابع المنظمة السرية والعمليات الثورية ومعاداة السلطات القائمة، ولعل ذلك يعود إلى ما كانت عليها الدويلات الألمانية الـ 300 في ذاك العصر من التقدم وازدهار العلم والأدب والمستوى الثقافي المرتفع نسبيًا بالمقارنة مع أوروبا وخصوصًا إيطاليا وشعبها المنهك بالحروب والتقسيم وظلم الإقطاعيين وانتشار الأمية والتخلف بين أبنائه.
أسهمت الجمعية وروادها في تذكية الروح الوطنية والقومية لدى الألمان والدفع بعجلة الوحدة التي أسفرت بعد حروب وتطورات عديدة عن توحيد ألمانيا وممالكها فيما بعد تحت اسم الاتحاد الألماني.
جمعية أمريكا الفتاة
بوستر من نشر جميعة أمريكا الفتاة
تأثر الشباب الأمريكي بالأفكار العابرة للأطلنطي في ذاك الوقت وبالقيم الاجتماعية والثقافية التي حملتها الجمعيات الفتية الأوروبية، وفي ثلاثينيات القرن التاسع عشر ولدت حركة “أمريكا الفتاة” بمجموعة من الكُتاب والمثقفين الأمريكيين أمثال جورج إيفانز وهنري دي ليون، تبنت المنظمة أفكار ليبرالية كانت الأساس للإصلاحات التي تبناها المجتمع الأمريكي مثل الإصلاح الاجتماعي وتوسيع نطاق الحريات وتنمية الجنوب الأمريكي وضم باقي الولايات للدولة الفيدرالية ومكافحة نفوذ الطبقة الأرستقراطية، كان لهذه الظاهرة الأمركية تأثيرها في إعادة التكوين الطبقي والفكري في الولايات المتحدة فيما بعد ونشوء جيل حزبي من الليبراليين وأصحاب الفكر المدني ممن شكل لاحقًا قادة الحزب الديمقراطي الأمريكي بالشكل الحالي.
جمعية تركيا الفتاة
لعلها من أبرز الحركات تأثيرًا على منطقتنا وأشهرها على الإطلاق، تلك الجمعية والمنظمة التي بدأت بسرية وكان لها ولأعضائها الدور الأبرز في إنهاء الخلافة العثمانية وإقامة دولة تركيا الحديثة.
تعود بداية هذه المنظمة المثيرة للجدل إلى أواخر القرن التاسع عشر وخصوصًا عام 1889 عندما تدّاعي مجموعة من الجامعيين والكُتاب والعسكريين الأتراك إلى تأسيس هذه الجمعية أسوة بحركة إيطاليا الفتاة وكان الهدف الأساسي الوقوف بوجه السلطان عبد الحميد الثاني فيما يتعلق بما قام به من تعطيل دستور عام 1876 وحل البرلمان، لكن انكشاف المنظمة أدى إلى فرار معظم أعضائها وقاداتها إلى فرنسا حيث أعادوا تشكيل أنفسهم وسياساتهم من جديد.
لكن المتتبع لتاريخ هذه الحركة يلحظ أن بدايتها تختلف بشكل كبير عما آلت إليه الحركة؛ فمن حركة تضم طيف واسع من الشعوب المنضوية تحت الراية العثمانية إلى حركة قومية تركية بامتياز تنادي بعلو الأصل التركي واللغة التركية وتنادي بدولة خاصة بالعرق التركي والانفصال عن الدولة العثمانية الجامعة.
برز التيار القومي المتشدد في الحركة وما عرف بجمعية الاتحاد والترقي بثلاثة أنور باشا وطلعت باشا وجمال باشا الذين تولوا الحكم الفعلي للبلاد بعد الانقلاب الناجح على السلطان عبد الحميد الثاني الذي خططت له ونفذته الحركة وتولية أخو السلطان محمد الخامس كحاكم شكلي للبلاد، فشلت جمعية الاتحاد والترقي في قيادة الإمبروطورية وأدخلتها في نفق مظلم من الهزائم والنكبات منذ دخولها في الحرب العالمية الأولى إلى جانب قوات المحور وهزيمتها في الحرب إلى اغتيال طلعت باشا عام 1920 وتوقيع اتفاقية سيفر ومن ثم انتهاء الدولة العثمانية وقيام الدولة التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك أحد قادة حركة الاتحاد والترقي (الامتداد الفعلي لحركة تركيا الفتاة) عام 1924.
الهيئة التأسيسة لجمعية الاتحاد والترقي
جمعية العربية الفتاة
كان للعرب نصيب من حركات القومية والثورة التي ظهرت في تلك الأوقات، تمثلت باكورة هذه الحركات بحركة “العربية الفتاة”، تأسست هذه الحركة التاريخية في ضواحي باريس عام 1909 على يد سبعة من الطلاب والمثقفين العرب المغتربين وهم: محمد عزة دروزة ورفيق التميمي وعوني عبد الهادي من فلسطين، محمد البعلبكي ومحمد رستم حيدر من لبنان، جميل مردم بك من سوريا، وتوفيق السويدي من العراق.
تعود الفكرة الأولى لانطلاق جمعية “العربية الفتاة” السرية إلى التصرفات العدائية لجمعية الاتحاد والترقي وتركيا الفتاة الذين أمسكوا بزمام الأمور في الدولة العثمانية بحق العرب واللغة والثقافة العربية وكل ما هو عربي، أنكر المثقفون العرب بشدة ما آلت إليه الأمور في الإمبراطورية وتداعوا بهدف تشكيل جسم مضاد لأفكار جمعية الاتحاد والترقي وأفعالهم العنصرية بحق الشعوب العربية، وكان من هؤلاء المثقفين عوني عبد الهادي ومحمد رستم حيدر الذين كانو يدرسون في إسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية ومركز الثقل الثقافي والسياسي للدولة.
توجه هؤلاء الشباب ومن نادى بأفكارهم إلى باريس حيث أعلنوا تأسيس الجمعية ووضع الميثاق الداخلي للحركة وأهداف الحركة الأساسية المتمثلة في إعطاء الولايات العربية الحكم الذاتي تحت سيطرة الدولة العثمانية وإصدار قانون الإدراة اللامركزية للولايات ووقف القوانين التركية الصادرة الحديثة التي سعت إلى تتريك الدولة بكل مفاصلها وإقصاء اللغة العربية ومنع استخدامها والاعترف بها، إضافة إلى السماح بتشكيل الجمعيات الثقافية الهادفة إلى نشر الفكر العربي والثقافة العربية في ربوع الولايات العربية.
مثّل المؤتمر العربي الأول في قاعة الجغرافيين بباريس عام 1913 الإنجاز الأبرز للحركة، حيث ضم المؤتمر ثلة من أبرز المفكرين والمثقفين العرب في ذاك الوقت، أسفر المؤتمر عن اختيار قيادة المنظمة المتمثل في عبد الحميد الزهراوي، وأمين سر المنظمة المتمثل في جميل مردم بيك، واختيار علم المنظمة الشبيه بعلم فلسطين الحالي والإعلان الرسمي عن الميلاد الفعلي للمنظمة التي استقطبت أعدادًا كبيرة من الشباب العربي.
صورة التقطت بعد اجتماع باريس عام 1913
تعامل جمال بك الحاكم الفعلي للدولة العثمانية في ذلك الوقت بقسوة شديدة مع المنظمة وأعدم ثلث أعضائها واعتقل معظم من حضروا مؤتمر باريس ولم يستحب أبدًا لطلباتهم؛ أدت هذه الأحداث لاحقًا إلى ماعرف بالثورة العربية الكبرى وما تلاها من أحداث أعادت تقسيم الجغرافيا والتاريخ العربي الحديث.