في أحد أشهر المصطلحات الكلاسيكية في العلوم السياسية، تعرف الدولة على أنها الشكل السياسي الذي يحتكر العنف وفق القانون، والقانون هنا هو تلك التشريعات التي يصدرها ممثلون عن الشعب يتم انتخابهم بشكل ديمقراطي ليحققوا مصالح هذا الشعب الذي اختارهم لهذه المهمة.
وفق هذا التعريف تصبح أي ممارسة للعنف خارج إطار الدولة إرهابًا، ولكن احتكار العنف هنا ليس عشوائيًا وبدون شروط، بل هو مشروط حصرًا بالتزامه بالقانون الجمعي الذي يمثل مصالح الأمة وأمنها القومي، وبالتالي فهو يحظى بإجماع شعبي، ولا يمثل حالة منفلتة من عقالها، وإلا تحولت الدولة إلى شيء آخر غير الدولة.
وحتى في الدول الاستبدادية والقمعية، فإن السلطات تسعى عادة لتقنين العنف الذي تحتكره، وذلك من خلال دساتير صورية تلتزم بالحد الأدنى من معايير القانون الدولي الإنساني، وقانون وقضاء مقيدين بمصالح السلطة ورغباتها، ولكنه على أي حال يظل قانونًا يسمح بإظهار نوع من المصداقية، ويحافظ على الدولة ككيان مؤسسي وليس مجرد عصابة.
ومنذ الانقلاب على الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي، حاولت سلطة الانقلاب أن تتصرف كدولة، وإن كانت دولة ظالمة، ولذلك فقد ضبطت كل ممارساتها ضد المعارضة بقوانين ما، فاعتقلت غالبية المعارضين وفق قرارات قضائية، وبلوائح اتهام، حتى وإن كانت بالغة السخف، وفي الجريمة الأكبر في التاريخ المصري الحديث؛ جريمة فض اعتصامي رابعة والنهضة وما تبعها من أحداث، أخرجت السلطات جرائمها بطرق قانونية، فحصلت على قرار من النائب العام الراحل هشام بركات، وأصدرت قرارًا سياسيًا بإجماع الحكومة، وأصدرت ما يشبه “الكاتولوج” القانوني للتدرج بعملية الفض لاستخدامه للاستهلاك المحلي والدولي، مع أنها لم تطبق هذا “الكتالوج” على أي حال!
استطاعت السلطة المصرية بهذه الإجراءات أن تؤمن حدًا أدنى من الرواية القانونية لإجراءاتها القمعية، وسوقته عالميًا وداخليًا، ومع أن هذه الإجراءات لم تقنع المجتمع الدولي والمؤسسات الحقوقية الدولية والمحلية المحترمة، إلا أن السلطات ظلت تستخدمها في خطابها حتى تظهر بصورة “الدولة”، ولهذا فقد حرص رئيس الانقلاب في زيارته الأخيرة لألمانيا أن يتحدث عن قانونية الإجراءات التي تتخذها سلطته ضد المعارضة، ووجود درجات مختلفة من التقاضي، في محاولة بائسة للظهور “كرجل دولة”، خلافًا لما يقول به الواقع على الأرض.
وعلى الرغم من بؤس هذه الإجراءات والتخريجات القانونية، وسقوط الرواية الرسمية وضعفها، إلا أن السلطات لم تعد تحتمل حتى الحد الأدنى من متطلبات وشروط التصرف كـ”دولة” بعد عملية الاغتيال المدانة للنائب العام قبل أيام، حيث دشن السيسي في حديثه المنفلت أثناء جنازة النائب العام نظريًا لمرحلة جديدة، هي مرحلة التحول من “الدولة” إلى “التنظيم العصابي”، حين أكد أن “القصاص يده مغلولة بالقوانين” وأنه لن يسمح باستمرار ذلك.
تنظير السيسي لتحول الدولة المصرية إلى عصابة لم يحتج سوى يوم واحد ليبدأ بمرحلة التطبيق على الواقع، وذلك من خلال موافقة الحكومة المصرية على تعديل غير واضح المعالم حتى الآن لقانون التقاضي، وما قيل في وسائل الإعلام إنه إقرار لأحكام الإعدام لتصبح نافذة بعد الحكم بدرجة واحدة، ما يفقد المتهمين حقهم بالاستئناف والنقض، مع أن هذا الاسئتناف والنقض لم يكونا مضمونين أصلًا؛ بسبب السمعة السيئة للدوائر القضائية التي تنظر بقضايا المعارضن المتهمين بتهم لا ترقى للحد الأدنى من المعقولية.
ولكن المرحلة الأخطر من تعديل القوانين في التنفيذ الفعلي لـ”تنظير” السيسي هي تلك الجريمة مكتملة الأركان التي ارتكبتها قوات الداخلية بحق ثلاثة عشر قياديًا في جماعة الإخوان في مدينة 6 أكتوبر، حيث اقتحمت الشرطة مكانًا لاجتماع يحضره مجموعة من العزل ونفذت بحقهم إعدامًا ميدانيًا، بطريقة أشبه بما تقوم به المافيات الخارجة عن القانون.
بالطبع قدمت الداخلية رواية متهالكة وساقطة عن مبادرة الضحايا بإطلاق النار على القوة المهاجمة لهم في الشقة، ولكنها رواية تكذبها طبيعة الشخصيات التي تم اغتيالها، فضلًا عن الصور التي أظهرتهم وقد اُستخدمت أصابعهم للبصم على أوراق لم تُعرف ماهيتها حتى الآن، إضافة إلى ظهور صور للشقة – مسرح الجريمة -، وواجهة البناية التي كان يجتمع فيها الضحايا دون أي علامات على وجود اشتباك مسلح حسب مزاعم الداخلية، كما أن أيًا من أفراد القوة المهاجمة لم يصب بأذى، وهو ما ينفي إمكانية حدوث اشتباك ولو بالحجارة، فضلًا عن الرصاص الحي!
بهذا الحادث تدشن سلطات السيسي وداخليته إذن مرحلة جديدة، تصبح فيها الدولة مجرد عصابة، ويصبح احتكارها للعنف مناقضًا للشروط المؤسسة لمفهوم الدولة، وتبدو خطورة هذا التحول في أن المواطنين الذين يمثلون العصب الأساسي لشرعية الدولة سيفقدون أي ثقة بها وبقضائها وجيشها وشرطتها؛ وهو ما سيؤجج حتمًا الرغبة والإرادة لدى الناقمين وفاقدي الثقة لتحصيل حقوقهم باليد، وهو ما يعني أن الدولة ستدفع المواطنين لرفض “احتكارها للعنف” دفعًا.
وهنا فقط نستطيع القول إن “ما كانت سابقًا دولة” تطلق الرصاصة الأولى في سباق تحول العنف إلى غاية وهدف لجميع الناقمين عليها، وهو ما يعني أن الإرهاب سيصبح حقيقة واقعة في مصر وليس مجرد أمر محتمل، وإذا لم تتوقف هذه السلطة عن التصرف كعصابة، ولم يأخذ الشعب بحراكه السلمي على يديها، فإنها ستقود البلاد إلى المجهول لا قدر الله.
نشر هذا المقال لأول مرة فى عربى21