يطرح انخراط الجمهورية الإسلامية الإيرانية بمفاوضات طويلة وشاقة مع القوى الكبرى، وعلى رأسهم الولايات المتحدة التي تعتبر وفق الأدبيات التقليدية الإيرانية “الشيطان الأكبر”، حول مشروعها النووي الذي يعتبر أيضًا وفق ذات الأدبيات مشروعًا قوميًا غير قابل للمساومة، علامة استفهام كبيرة حول أهدافها في منطقة الشرق الأوسط، التي تشهد حالة سيولة كبيرة على مستوى انحلال مراكز القوى الإقليمية وإعادة تشكيلها من جديد.
يقودنا هذا الاستفهام للنبش في الماضي للوقوع على المبادئ والمنطلقات التي أسست للسياسة الخارجية الإيرانية بعد الثورة، وقبل الذهاب في هذه المهمة لا بد من إقرار حقيقة غاية في الأهمية، وهي أن الإمام الخميني قائد الثورة وأيقونتها هو الذي وضع هذه المبادئ والمنطلقات وفق أفكاره التي حملها لبناء الدولة، والتي ارتكزت في الأساس على أيديولوجيته الدينية وفق المذهب الشيعي الإثني عشري، فالخميني استطاع أن ينقل المذهب الشيعي من مربع التعبد الديني إلى مربع الأيديولوجية السياسية، وبذلك كان الدين المذهبي الوعاء الذي تشكلت فيه السياسات الإيرانية، والتي صاحبت الدولة ونخبها الحاكمة منذ الثورة عام 1979 وحتى الآن.
إذًا ومن أجل أن نفهم كيف تتصرف إيران الآن علينا أن نفهم أولًا كيف كان يفكر الخميني بالأمس؛ بداية لم يكن الخميني يرى أن الدول التي يتألف منها النظام العالمي، القائم على أساس الدولة القطرية، والذي أسست له معاهدة “وستفاليا” 1648، متساوية في الإستقلال والسيادة، بل هناك فرق كبير في توزيع القوة، فالنظام العالمي مؤلف وفق مبدأ القطبية بحيث تفرض فيه دولة ما حالة من التفوق والسيطرة على مجموعة من الدول الأخرى، وهو النظام الذي يطلق عليه المؤرخ البريطاني “مارتن وايت” اسم (Suzerain – state System).
بالنسبة للخميني فإن النظام العالمي كان يتألف من دولتين قطبيتين؛ واحدة في الغرب وهي الولايات المتحدة، وواحدة في الشرق وهي الاتحاد السوفيتي، وهو التقسيم الذي يبدو مألوفًا، إذ إن جميع علماء السياسة في تلك الفترة كانوا يقسمون العالم وفق هذا التقسيم ويفهمونه وفق هذا الفهم، ولكن المختلف لدى الخميني أنه وبينما ينحصر تقسيم علماء السياسة للقطبين وفق مبدأ موازين القوى، فإن الخميني اعتمد في تقسيمه على الأيديولوجيا، حيث يرى أن هذين القطبين يمثلان طريقا الشر، بينما يبشر هو بطريق الخير، والذي يتشكل من إيران كدولة – قطب تتبنى الأيديولوجيا الإسلامية وتتمتع بوضعية المهيمن على مجموعة من الدول الإسلامية الأخرى لتشكل بذلك المكافئ الثالث للقطبين الغربي – الرأسمالي، والشرقي – الاشتراكي.
وقد شكلت هذه الفكرة المادة الأولية التي بنى عليها فيما بعد محمد جواد لاريجاني نظرية “أم القرى”، التي تفترض بأن إيران، ونظرًا لنظامها القائم على “الولي الفقيه”، تتمتع بحتمية قيادة العالم الإسلامي، بحيث تشكل البؤرة التي تجتمع في فلكها باقي الدول الإسلامية، ولا شك أن المتابع لسلوك إيران في سياستها الخارجية سيلاحظ مدى تغلغل هذه النظرية في ذهنية صناع القرار في طهران.
ترجم الخميني نظرياته وأفكاره على شكل سلوك سياسي واقعي، فقد كانت إحدى ميزات الرجل قدرته على ردم الهوة بين النظرية والتطبيق، ارتكزت سياسته، التي من خلالها أراد أن يرتقي بإيران لتكون دولة – قطب، على دعامتين أو مبدأين أساسيين: أولها مبدأ التمايز، حيث أعلن الخميني منذ البداية شعار “لا شرق ولا غرب ولكن الإسلام فقط ” أو “لا السوفييت ولا أمريكا وإنما الإسلام والمسلمين”، أما المبدأ الثاني فهو التأثير والتغيير، وذلك من خلال سياسة تصدير الثورة، ونصرة المستضعفين.
رافق هذين المبدأين السياسية الخارجية الإيرانية منذ إنشاء الجمهورية وحتى يومنا الحاضر، وقد خضعا لكثير من التفسيرات وفق تطور مجريات الأوضاع السياسية الإقليمية والمحلية؛ ولكن هذا لم يلغ تأثيرها الكبير على صانعي القرار في طهران، فعلى سبيل المثال، كانت سياسة تصدير الثورة قبل الغزو العراقي لإيران تقوم على مبدأ تصدير الروح الثورية وفق آليات التبشير والدعوة، إلا أنها تحولت إلى الوسائل العسكرية أثناء الحرب العراقية – الإيرانية، ومن ثم تحولت إلى تصدير المثال الثوري في مرحلة ما بعد الخميني، لتعود إلى العمل العسكري من جديد، ولكن وفق نموذج حرب الوكالة بعد الثورات المضادة للربيع العربي كما يحصل في اليمن.
عودًا لما استهللت به المقال حول أهداف إيران في التفاوض مع “الشيطان الأكبر” بخصوص برنامجها النووي “القومي”، فقد أصبح واضحًا أن خضوع مبادئ إيران في السياسة الخارجية لتفسيرات متعددة لا يلغي الهدف الأساس من هذا المبدأ أو ذاك، فمنذ البداية أرادت إيران أن تتحول إلى دولة – قطب، وإذا كان التفاوض مع الشياطين يخدم هذا الهدف العام فلا حرج من تبنيه طالما أنه قابل للخضوع لواحدة من التفسيرات التبريرية التي ستعطيه في نهاية المطاق صفة أخلاقية لتبنيه من قِبل النخب الحاكمة بعيدًا عن عقد الذنب.