أسفر التنافس على رئاسة البرلمان التركي للدورة الخامس والعشرين عن فوز مرشح حزب العدالة والتنمية ووزير الدفاع السابق عصمت يلماز، بعد حصوله على 258 صوتًا، فيما حصل مرشح حزب الشعب الجمهوري دينيز بايكال على 182 صوتًا.
ولا تنتهي الحكاية عند هذا الفوز بل على العكس تبدأ قصة جديدة؛ فهذه الأرقام التي حصل عليها المرشحون لها دلالات مهمة، فمرشح حزب العدالة لم يفز إلا بأصوات حزبه، أما مرشح حزب الشعب الجمهوري فقد حصل على 182 صوتًا بزيادة 50 صوتًا عن عدد أعضاء حزبه، وفيما أكد نواب حزب الحركة القومية أنهم لن يكونوا في خانة واحدة مع حزب الشعوب الديمقراطي فإن الـ 50 صوتًا لم يبق لها مصدر سوى حزب الشعوب الديمقراطي.
نعم، يكون حزب العدالة والتنمية قد حافظ بهذا على منصب رئاسة البرلمان للمرة الخامسة على التوالي، لكن هذه المرة تقف أمامه عقبات بسبب عدم قدرته على تشكيل الحكومة وحده، وقد ذكرت في مقال سابق أن الأحزاب المعارضة، إن صح هذا التعبير، قد لا تستطيع الاتفاق على الإنشاء أو الهيكلة أو البناء لحكومة أو اتفاق، ولكنها تستطيع بكتلتها ذات الـ 60% من البرلمان أن تحبط وتهدد خطط وقرارات حكومة يشكلها حزب العدالة والتنمية.
لقد كان الفشل في اختيار رئيسًا للبرلمان من الجولة الأولى دليلًا واضحًا أن ليس هناك توافقات خلف الكواليس أو لا يراد لهذه التوافقات أن تظهر إن وجدت، لكن المرجح أنه لا يوجد توافق بين أي من الأحزاب، وهذا ما يفتح الباب أمام سيناريوهات قد يكون أحدها الانتخابات المبكرة.
لقد أشارت النتائج أيضًا إلى وجود 78 ورقة باطلة و29 ورقة بيضاء، وقد كان هذا متوقعًا بعد أن قال زعيم حزب الحركة القومية إنه لن يدعم سوى مرشحه لرئاسة البرلمان “أكمل الدين إحسان أوغلو” حتى لو اضطر نواب حزبه لوضع أوراقهم بيضاء، ولكن يبدو أن نوابًا من أحزاب معارضة أخرى قد أعجبتهم هذه الأفكار سواء بإبطال أصواتهم أو وضع أوراق فارغة.
وفيما كانت التكهنات تشير إلى تقارب حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية فإن التصرفات الأخيرة لرئيس الحركة القومية، برفضه لكل التحالفات مع العدالة والتنمية أو مع حزب الشعب الجمهوري، تدل على صعوبة كبيرة في تشكيل حكومة ائتلافية في تركيا.
وبالرغم من محاولات كلتشدار أوغلو لترغيب بهتشلي بعرض رئاسة الوزراء عليه إلا أن الأخير قد رد ردودًا قاسية بأنه لا يفرط بمبادئه، وأن كلتشدار أوغلو لا يحق له أن يراه صالحًا لرئاسة الوزراء بينما الشعب التركي لا يرى ذلك، على حد قوله، وهذا يفيد أن الحركة القومية يريد أن يبقى في المعارضة على طول الخط .
من جهة أخرى يتيح هذا الأمر ارتفاع وزن خيار تحالف حزب الشعب الجمهوري مع حزب العدالة والتنمية، وهو ما قد يدعمه حزب الشعوب الكردي، لكن هذه الحكومة ستكون ذات تركيبة عجيبة؛ لأنها تجمع الشتيتين المتناقضين وبالتالي ربما نرى الخصمين الشديدين، العدالة والتنمية والشعب الجمهوري، يتصارعان في الحكومة فيما يتصارع الغريمين الآخرين، حزب الحركة القومية وحزب الشعوب الديمقراطي، تحت قبة البرلمان، وأمام هذه الحال فإننا سنرى بالفعل تركيا جديدة !
وأمام هذه الحالة المتشظية للمعارضة التركية والتي رأينا نموذحًا لها في منافسات انتخاب رئيس البرلمان، فإن المستفيد هو حزب العدالة والتنمية، كما أن هذا التشظي له إيجابيات أيضًا؛ والتي من أهمها هو صحة دعوات العدالة والتنمية نحو تحويل تركيا إلى نظام رئاسي يعلو على التجاذبات ولا تبعثر جهوده الخلافات والخصومات، وهو ما قد يقتنع به الشعب التركي عمليًا في ظل حكومة هزيلة، أو يفهم ذلك بشكل أسرع عبر انتخابات مبكرة تتغيير فيها الموازين الحالية.
لكن من جهة أخرى هذه الفائدة تبقى مقتصرة على المسائل التي لا يمكن أن تتنازل فيها الأحزاب لبعضها وتشعر بالندية تجاه بعضها البعض، أما في المسائل الأخرى فهي تستطيع أن تتخذ موقفًا موحدًا يخلخل الأوضاع، كما أن بعضها قد يكون هو الآخر يراهن على استمرار تراجع العدالة والتنمية حتى في حال انتخابات جديدة، وهو ما لا يرجحه معظم المراقبين.
يبقى أن نشير إلى أن الوضع القائم، مع تسارع الأحداث في سوريا والعراق، ليس جيدًا بالنسبة لتركيا؛ وقد كان أحد أهم حصون تركيا التي خففت من آثار ما بعد الربيع العربي التي ضربت المنطقة، هو محافظة تركيا على استقرارها الداخلي، ولعل هذا أحد أهم التحديات التي ستواجه العدالة والتنمية في المرحلة المقبلة.
يفرض الوضع الحالي في تركيا على الساسة تعاملًا حكيمًا ذكيًا يستميل الرأي العام، ويحافظ على اقتصاد وأمن البلاد، لتجنيبها الانزلاق في أي منحدر وهو وضع لا يحسد عليه، يبقى أن نتمنى الخير لتركيا وأهلها؛ كونها أحد الدول التي مازالت تحافظ على قدر من المبادئ والأخلاق في سياساتها الداخلية والخارجية مقارنة بأوضاع الدول المتحضرة، والتي كان آخر أمثلتها ألمانيا في قضية أحمد منصور، والولايات المتحدة في إقرار زواج المثليين قانونيًا.