تحوّل الإرهاب في تونس الثورة إلى معطى سياسي وإلى عنصر مُحدد للسياق العام الذي تمر به البلاد، فهو الذي أسقط حكومات حمادي الجبالي ثم علي لعريض وهو الذي ساهم في إخراج نتائج الانتخابات السابقة بتلك الكيفية، وهاهو اليوم يتحول إلى معطى اقتصادي من خلاله ضرب أحد أهم القطاعات في الاقتصاد التونسي وهو السياحة.
ورغم التطور الذي شهدته هذه الظاهرة – الإرهاب – ونزولها من الجبال إلى المدن ، ثم تحولها من المدن الحدودية للعاصمة والمدن السياحية، ورغم تحول الأهداف من التركيز على قوات الأمن والجيش التونسيين إلى البحث عن السواح الأجانب، واصل بعض الساسة في تونس رقصهم على الجثث والاستثمار السياسي في الدم.
لا تكاد تمر فاجعة دون أن يتكرر فيها نفس المشهد دومًا: محاكمات تنتصب على وسائل الإعلام العامة والخاصة، وكيل التهم للترويكا التي حكمت بعد الثورة بقيادة حركة النهضة ثم بث لبعض الأحقاد الأيديولوجية من خلال تحويل الحرب من حرب على التشدد إلى حرب على التدين بصفة عامة؛ من الجهة الأخرى النهضة وباقي شركائها ينفون التهم الموجهة إليهم وينادون بالوحدة الوطنية.
مشهد كئيب يتكرر كل مرة دونما احترام لتلك الأرواح التي تُزهق والتي يسعى زاهقوها لخلق حالة من الفوضى يُحسنون إدارتها ضمن خططتهم التي تقول بإدارة التوحش، مشهد طالما يضيف لجنائزية اللحظة جنائزية أعمق، لا يمكن إلا أن تلحظ من خلاله الالتقاء الموضوعي بين حاملي السلاح وبين من تنشط تجارتهم السياسوية مع هبوب ريح الموت: كلاهما يدفع نحو الفوضى وإن اختلفت الخلفيات والأهداف.
ومع كل إعادة إنتاج لهذا المشهد، أذكر كلمات ليسري فودة كبرت معها:
“حينما يتحول الأبيض إلى رمادي، ويتحول الرمادي إلى أسود، ويتحول الأسود إلى عدوان، فتش عن الإعلام، وحينما يتحول الحق إلى شك، ويتحول الشك إلى زور، ويتحول الزور إلى بهتان، فتش عن الإعلام، اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى تُصدَّق، هؤلاء المتلاعبون بالعقول، بكل منهجية وبكل إبداع يستحقون من الناحية المهنية كل إعجاب حتى وإن كانوا من الناحية الأخلاقية يستحقون كل احتقار”.
وبالفعل، لا يمكن أن ننكر أن الإصرار والاستماتة في ربط الإرهاب بالحركات والأحزاب الإسلامية كافة دون تمييز فيما بينها والتركيز على حركة النهضة باعتبارها أحد المنافسين الدّائمين على السلطة، والكذب ثم الكذب نجح في أن يخلق رابطًا وهميًا بين النهضة والإرهاب لدى قطاعات ليست بهينة في المجتمع التونسي وهو ما انعكس في نتائج الانتخابات الأخيرة التي دارت أساسًا حول نقطتين أساسيتين: الأمن والمعيشة.
ومن المهم في هذا السياق أن نتساءل عن حقيقة مسؤولية حركة النهضة في هذا المف، علنا نكون مكابرين ولا نريد أن نواجه الحقيقة؛ لم يكن النظام السابق يتردد في ضرب كل مظاهر التدين، فبعد محرقة التسعينات والتي حاول من خلالها اجتثاث حركة النهضة، منافسه السياسي الأكبر، حورب الحجاب والالتزام الديني وأصبح رواد المساجد محل متابعة لصيقة وتحولت منابر التدين إلى أماكن باهتة جافة يُسبّح فيها رجال السلطة – أصحاب العمائم – بحمد ولي نعمتهم ولا يخرجون بحديثهم عن دروس الوضوء وباقي العبادات دون خوض ولو خفيف في الشأن العام ولا حتى تمسك بالوظيفة الإصلاحية لهذه المساجد.
وعلى مدى ما يقرب العشر سنوات، عانت تونس من تصحر ديني تام سواء في دور العبادة أو حتى في برامج التعليم التي أعدها مُهندسو “تجفيف الينابيع”؛ تصحر دفع شباب الألفية الثانية التونسيين للبحث عما يملأ الفراغ الروحي الذي خلفته سياسات السلطة، ولم يكن أمام ما اُصطًلح على تسميتهم “شباب الصحوة” إلا أن ينهلوا دينهم من الإنترنت.
وبالنظر إلى حجم الفراغ السائد وقتها، مثّل هؤلاء الشباب أوعية قابلة للملئ بكل ما يُصادفهم من أفكار، وتزامنت تلك الفترة مع اجتياح العراق وما سببته من مرارة وشعور بالمذلة لدى أغلب العرب والمسلمين، ومع اشتداد سطوة النظام وظلمه وفساده، وجد التيار “الجهادي” نفسيات مُهيئة لاستيعابه فكرًا وللانخراط في أجنداته فعلاً، وكانت أحداث سليمان – مواجهات مسلحة دامية بين مسلحين نسبوا إلى السلفية الجهادية وبين قوات الأمن والجيش التونسي في منطقة سليمان التي تبعد 30 كلم عن العاصمة تونس – أولى المؤشرات على أن هذا الفكر وجد له موطن قدم في تونس وأن النواة الأولى الحاملة للوائه تكونت من شباب ترعرع في عهد بن علي ونظامه.
أحداث سليمان انتهت بقتل من قتل وسجن من سُجن وبمزيد من تشديد الرقابة على رواد المساجد والتضييق على المتدينين، وظل الأمر على ما هوعليه إلى حين اندلاع الثورة وعصفها برأس النظام، وفي نشوة الاحتفال بهذا الإنجاز التاريخي، صدر في عهد كل من الباجي قائد السبسي (رئيس الحكومة وقتها) وفؤاد المبزع (رئيس الدولة) قرار بالعفو التشريعي العام تم بموجبه إطلاق كل مساجين الرأي والصحافة وكل من دخل السجن بتهم تتعلق بنظام الحكم، وكان من بين المُفرج عنهم “خلية سليمان” وباقي الرموز “الجهادية” التي لم تنتظر كثيرًا لتستغل مناخ الحرية وحتى ضعف الدولة لتفتك عشرات المساجد ولتنشر خطابها في غفلة من الدولة وأجهزتها.
إن الرجوع الموضوعي لدفاتر التاريخ يقيم الدليل على أن هذا الفكر سبق الثورة التونسية بسنوات ولم يكن من إرهاصاتها، كما أن إنعاش آماله في الحياة سَبق تولي حركة النهضة وشركائها للسلطة، فقرار شمول العفو التشريعي العام لرموزه الموجودة في السجون يعود للرئيس الحالي، الباجي قائد السبسي، أيام كان رئيس للحكومة، وكفى بالتاريخ داحضًا للأطروحات التي تريد تحميل الثورة وحركة النهضة مسؤولية ولادة هذا الفكر الهدام.
في الجزء الثاني من هذا المقال، سنتساءل عن كيفية تعامل النهضة مع هذه الظاهرة من على سدة الحكم، بعيدًا عن هواية الرقص على جثث الشهداء.