في هذا اليوم (17 رمضان) قبل مائة عام تقريبًا (1329هـ = 1911م) توفي الزعيم المصري أحمد عرابي، قائد الثورة المهزومة – ولا أقول: الفاشلة – بعد حياة حافلة شاقة تقلب فيها بين النعيم والجحيم، بين الزعامة والنفي، بين النصر والهزيمة، بين البطولة والاستسلام، فكان هو وكانت ثورته حدثًا جليلاً جديرًا بالنظر والاعتبار!
ومختصر الثورة في جملة واحدة: أن حركة بدأت كتمرد في الجيش على القيادات الشركسية لمطالب محدودة، سرعان ما حولتها الصفوة المصرية إلى ثورة شعبية بمطالب عامة، وبلغ الوضع من القوة والارتباك في صف السلطة حدَّ الخضوع لمطالب الثورة وتشكيل حكومة وطنية ومجلس نواب ودستور، وهنا نزل الإنجليز بجيوشهم في الإسكندرية بدعوى حماية الأجانب الذين تعرضوا لعملية مدبرة في الإسكندرية تقول بأنهم في خطر، وتم الاحتلال ودَعَمَهُ الخديوي وحدثت خيانات أدت إلى هزيمة الجيش المصري في معركة التل الكبير ثم قُبِض على عرابي وزعماء الثورة وكان جزاؤهم النفي ولم يسمح لهم بالعودة إلا محطمين بعد أن أهلكهم الزمن والمرض!
إن في هذا الثورة دروسًا لو أننا فقهناها لما جرى علينا الذي جرى، ولكن على كل حال لم يفت الوقت كله، وما زال في الثورة متسع، وما تزال الميادين تغص بالبواسل والأبطال!
هذه عشرة دروس تهديها لنا قصة عرابي من قبره!
(1)
الثورة .. إسلامية
ثورات الشرق تؤول إلى الإسلام، فالإسلام روح الشرق ومزاجه وسمته، وفي حين كانت الأسباب المباشرة لثورة عرابي تبدو وكأنها حركة تمرد عسكرية تطالب بالمساواة بين المصريين والأجانب في الرتب العسكرية، إلا أنها وجدت نفسها تحمل مطالب الأمة كلها، في ورطة ربما لم تكن محسوبة منذ أول الأمر، ولكن هكذا تجري الأمور في بلادنا: ما تلبس الثورات أن تكون إسلامية في كل شيء، وأن ترفع الإسلام شعارًا ومطلبًا.
ما إن جهر عرابي بمطالب المساواة حتى وجد نفسه في وجه الخديو توفيق الذي رفع في وجهه عنوان الشرعية “إنه سليل محمد علي وقد ورث هذه البلاد عن آبائه وأجداده”، وحينئذ خرجت الروح الإسلامية مستدعية قول عمر بن الخطاب لتقول: “لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا أو عقارا، ووالله لا نورث بعد اليوم”، وردَّ عليه عنوان الشرعية ليذكره بأنه ليس إلا وكيلاً عن السلطان: الخليفة العثماني، وكتب في مذكراته: “.. وبذلك علم الصغير والكبير أن لنا سلطانًا شرعيًّا هو صاحب السيادة العظمى على البلاد المصرية، وأن الخديو هو نائب عن جلالته فقط من بعد أن كانوا لا يعرفون لهم حاكمًا شرعيًّا غير الخديو”، وكتابات عرابي تفيض بتعظيم الشريعة وطاعة السلطان العثماني والتنديد بالخديوي الذي خالف الشريعة واحتمى بالأجانب وملكهم البلاد.
وكان زعماء الثورة العرابية ورجالها إما أزهريون وإما ممن تلقى العلوم الدينية، وخرجت الفتاوى تدعم عرابي ضد الخديوي وتحرم تسليم البلاد للإنجليز وتحض على الجهاد، وكان هؤلاء جميعًا ضمن من حوكموا بعد هزيمة الثورة.
فخلاصة الدرس: الثورات في الشرق إسلامية الهوى والطابع والشعار، أما الاحتلالات والانقلابات فهي تؤول إلى الأجانب.
(2)
الأنظمة تابعة للأجنبي وهو يحميها
منذ أدخل محمد علي الأجانب إلى مصر وقد صار لهم فيها نفوذ كبير، هذا النفوذ تعرض للضعف في أيام خليفته الخديوي عباس، لكنه عاد للازدهار مرة أخرى في عهد سعيد ثم بلغ ذروته في عهد إسماعيل الذي كان من التبذير والإسراف بحيث قبل خضوع المالية المصرية لمراقبين أجانب بل وتولى الوزارة في عهده ممثلين عن إنجلترا وفرنسا، وصارت للقناصل كلمة عليا في السياسة المصرية، وصارت للأجانب محاكم خاصة “المحاكم القنصلية” ثم محاكم مختلطة (وهي في الحقيقة أجنبية النفوذ) بل إن الخديوي إسماعيل نفسه حين أعلن إفلاسه حكمت عليه هذه المحاكم بمصادرة أمواله وضياعه لتسديد ديون البنوك والمصارف الأجنبية.
بلغ نفوذ الأجانب حدَّ أن عرابي حين سار بمظاهرته العسكرية إلى قصر عابدين لرفع مطالب الجيش والشعب حرص على إبلاغ القناصل بها وتطمينهم أن الأمر لا علاقة له بسلامة الأجانب! وكانت سلامة الأجانب هذه هي المبرر الذي أعلنته بريطانيا لتنزل بجيوشها إلى مصر، كذلك كانت سلامة الأجانب هي الحجة التي يسوقها الخديوي توفيق للإنجليز تحذيرًا لهم من عرابي بدعوى أنه “وطني متطرف، يكره الأجانب، يريد طردهم من مصر”!
تقول برقية بريطانية عن بدايات حركة عرابي بأن هؤلاء الضباط أغرار لا يقدرون خطورة ما يقومون به، تشير إلى سذاجتهم وعدم انتباههم للبُعد الدولي ولا حجم النفوذ الأجنبي، وتبدو دهشة عرابي نفسه حين يأتي الأسطول الإنجليزي قبالة شواطئ الإسكندرية ثم يحتج على الإصلاحات والتحصينات الحربية فيكتب “وكنا نتعجب، كيف أن الترميمات في الطوابي العادية تعد تهديدًا وحضور المراكب الحربية وإحاطتها بالثغور المصرية لا تعد تهديدًا؟!”.
فخلاصة الدرس أن هذه الأنظمة التابعة للغرب حين توشك على السقوط يتدخل الغرب بنفسه لإنقاذها، فينزل الاحتلال الأصيل عند فشل الاحتلال الوكيل، ثم يرحل الاحتلال الأصيل بعد أن ينصب عملاءه ليكونوا هم البديل (كما فعلوا في انقلاب يوليو 1952م).
(3)
درس الشرعية الدولية والقانون الدولي
أراد عرابي ردم قناة السويس لمنع الإنجليز من عبورها والتقاء قواتهم القادمة من الهند عبر البحر الأحمر مع القادمة من البحر المتوسط، وساعتها ستعاني القوات القادمة من الهند صعوبات الصحراء الشرقية فيم ستعاني القوات القادمة من الدلتا صعوبة كثرة الجسور لا سيما والوقت وقت فيضان، إلا أن ديليسبس (الفرنسي، والمفترض أنه عدو الإنكجيز للعداء التاريخي بين الطرفين) أكد لعرابي أن القانون الدولي يمنع إنجلترا من استعمال القناة، وأن القناة ممر مائي محايد، وأن أحدًا لا يستطيع خرق هذا القانون، وصدَّق عرابي هذا الكلام ثم استفاق وقد دخل الإنجليز عبر القناة، ومع دخولهم رسالة من ديليسبس تقول: بأن الإنجليز خرقوا القانون الدولي واستعملوا القناة وأن لعرابي أن يفعل ما يشاء!!
كذلك فإن من عيوب الحركة العرابية اطمئنانهم إلى أن المشكلة قد تحل سلميًا عبر مؤتمر الآستانة الذي عقدته الدول الأوروبية وأوحت نتائجه بأنه لن يحدث تدخل أجنبي في مصر، وفيه أصرت بريطانيا على إضافة “ما لم تلزم الحالة القهرية” وهي الإضافة التي تفرغ من كل مضمون، وحسب العرابيون أن الأزمة ستنتهي بخلع توفيق وتولية الأمير حليم باشا مكانه.
ثم أسفرت الأيام عن مصير من لم يستعد للحرب واستند إلى “الشرعية الدولية” و”القانون الدولي” وانتظر نتائج “المؤتمرات الدولية”!
(4)
لا يغني مع المجرم سحب الذرائع
لقد نزل الاحتلال الإنجليزي بذريعة حماية الأجانب، وقد بذل عرابي كل جهد ممكن لإقرار الأمن وحماية الأجانب، إلا أن معركة نشبت واشتعلت وتطورت بشكل غريب في الإسكندرية، بين يوناني وعربجي، تحوم حولها شبهات كثيرة في إمداد السفارات الأجنبية لرعاياها بالسلاح، وعلى قدر ما حاولت الحكومة إنهاء الأمر على قدر ما فشلت في ذلك، وكانت تلك الذريعة.
على أن الإنجليز حين قصفوا الإسكندرية لم يبالوا لا بأرواح الأجانب ولا بمصالحهم، واستمر قصفهم العشوائي ومات الأجانب مع المصريين كما تضررت مصالح الأجانب كمصالح المصريين، وذلك درس للأقليات المغرورة، وهو رغم تكرره إلا أن قليلاً من يعقلون!
(5)
متى يُعدم قائد الثورة ومتى يبقى سجينًا؟
حُكم على عرابي – ومعه قادة الثورة – بالإعدام، ثم خفف الحكم إلى النفي المؤبد، فنفوا إلى جزيرة سيلان وظلوا هنالك نحو عشرين سنة حتى حطمهم الزمن، فمنهم من فقد بصره ومنهم من أهلكه المرض وجميعهم أصابته الشيخوخة، وفي منفاهم ثم بعد عودتهم درس بليغ سنعرض له فيما بعد.
لكن الدرس المستفاد هنا هو: لماذا لم ينفذوا فيه حكم الإعدام؟!
والإجابة هي أن الإنجليز، وقد سار على نهجهم غالب الساسة الغربيين فيما بعد، إذا تحققوا من النصر لم يقدموا على إعدام قادة المقاومة، بل يتركونهم للسجن الطويل أو النفي الطويل حتى يتحطموا، وغالبًا ما ينجحون في هذا، فيحرمونهم بهذا من شرف الشهادة التي تلهب الزعامة وتخلد الصورة ويبدلونهم بها صورة المهزوم المحطم التي قد خلت من بريق البطولة ولمعان الأسطورة!
أما إذا لم يكن النصر محققًا، وكانت القيادة ذات أثر، فالقتل هو الحل، سواء أكان قتلاً بعد محاكمة صورية أو كان قتلاً بغير محاكمة!
وهذا الدرس يفيدنا في معرفة مصير الرئيس مرسي وقادة الإسلاميين الذين هم على الحقيقة قادة الثورة المصرية.
بقيت خمس دروس أخرى نفرد لها المقال القادم بإذن الله تعالى! نتناول فيها: العلماء والدعاة، والقضاء والإعلام، والفارق بين جيل الثورة وجيل الذل، وكيف يتحول احتكار الجيوش للسلاح إلى مأساة على الأمة، وكيف ظل عرابي ملوثًا لسبعين سنة بفعل سطوة الثقافة الغالبة!