ستامفورد بريدج
لا تشكل الملاعب في العادة أهمية كبرى في تاريخ أندية كرة القدم، حتى أن العديد من كبار أندية أوروبا لا تمتلك ملاعبًا خاصةً بها حتى الآن، إلا أن ملعب ستامفورد بريدج – الذي يقع في الجزء الغربي من لندن – يشذ عن هذه القاعدة، إذ إن له الفضل الأكبر في وجود نادي تشيلسي اللندني، فقبل تأسيس النادي بعشرات السنين كان ستامفورد بريدج ميدانًا لممارسة مختلف الألعاب الرياضية كالجري وألعاب القوى، وكان أن استطاع الأخوان الثريان غاس وجوزيف ميرز الحصول على ملكية هذا الملعب عام 1904، وبسبب عشقهما لكرة القدم قررا حينها تحويله إلى ملعبٍ مخصصٍ لممارسة هذه اللعبة دون غيرها، فعرضا تأجيره على نادي فولهام المجاور فرفض القائمون عليه العرض، فما كان منهما إلا أن شرعا بتأسيس نادٍ خاصٍ بهما ليشغل هذا الملعب، واختارا له اسم “تشيلسي” وهو اسم منطقة قريبة من مكان الملعب، وكان العاشر من مارس عام 1905 هو يوم ميلاد النادي، الذي اتخذ من رسم الأسد الذي يحمل الصولجان شعارًا له، ومن اللون الأزرق لباسًا رسميًا له.
أول الغيث
لم يتأخر صعود الزرق “البلوز” إلى دوري الدرجة الأولى الإنجليزي كثيرًا، فقد نجحوا بذلك في عامهم الثاني بعد تأسيسهم، ولكن الاستقرار والفلاح بقي بعيدًا عن متناولهم، فتأرجحوا بين الصعود والهبوط سنواتٍ طويلة، دون أي نجاحٍ يذكر، سوى بلوغهم نهائي كأس الاتحاد الإنجليزي عام 1915 دون الظفر به، كما لم يستطع البلوز تجاوز حاجز أندية الوسط في المواسم التي حافظوا فيها على مكانهم في الدرجة الأولى، وكان أفضل مركز وصلوا إليه الثالث عام 1920.
ولم تأتِ فترة ما بين الحربين العالميتين وما تلاها من سنوات بالجديد، فاستمر الأسود الزرق في غفوتهم وابتعادهم عن المنافسة والألقاب، حتى استلم دفة تدريبهم لاعب منتخب إنجلترا السابق تيد دريك عام 1952، فقام بإحداث ثورة على صعيد طرق التدريب في النادي، استطاع بفضلها تكوين فريقٍ قادرٍ على مقارعة الكبار، قوامه شبان النادي الذين دعمهم ببعض الخبراء، وقطف ثمار ما زرعه بعد ثلاثة مواسم، عندما نجح في قيادة تشيلسي إلى أول بطولة في تاريخهم بإحراز لقب الدوري الإنجليزي الغالي عام 1955، منهيًا جفوة النادي الطويلة مع الألقاب، وأكمل نجاحه في نفس العام بالفوز بالدرع الخيرية للاتحاد الإنجليزي (التي تعادل كأس السوبر المحلية في بقية بلدان أوروبا).
ولم يستطع دريك الصمود على القمة بعد بلوغها، فقضى مع فريقه ستة مواسم بعدها دون أي نجاح يذكر، ليستلم زمام الأمور من بعده المدرب تومي دوكيرتي، الذي نجح عام 1965 في قيادة الفريق إلى الفوز بكأس رابطة الأندية المحترفة (ثالث البطولة الإنجليزية أهميةً)، معتمدًا على ثلةٌ من النجوم يتقدمهم الهداف بوبي تامبلينغ، ثاني أفضل هداف في تاريخ البلوز برصيد 202 هدف، ورون هاريس، الذي يحمل الرقم القياسي في عدد المشاركات مع النادي برصيد 795 مباراة.
واضطر أنصار تشيلسي إلى الانتظار حتى عام 1970 كي يكحلوا أعينهم برؤية فريقهم حاملًا كأس الاتحاد الإنجليزي “كأس إنجلترا” لأول مرة في تاريخه، بعد الفوز في النهائي على ليدز يونايتد بهدفين لهدف، انتصارهم هذا جاء على يد المدرب وايف سكستون، الذي لم يكتفِ بهذا القدر من النجاح، بل قاد البلوز لإحراز أول بطولاتهم على الصعيد الأوروبي وذلك بالفوز بلقب كأس الكؤوس الأوروبية عام 1971 على حساب ريـال مدريد الإسباني في نهائي أثينا.
هبوط وصعود
لم تحمل بقية حقبة السبعينيات ومن بعدها حقبة الثمانينيات أنباءً سارةً لمحبي البلوز، فقد توقف عداد البطولات تمامًا عند عام 1971، بل وتدنت طموحات الفريق، حتى غدا أوجها البقاء في مصاف أندية الدرجة الأولى لا أكثر، قبل أن تعصف بالنادي أزمة مالية عنيفة كانت نتائجها وخيمة عليه، إذ هبط إلى الدرجة الثانية واضطر إلى بيع معظم نجومه، بل وخسر جراءها ملكية ملعبه التاريخي ستامفورد بريدج لصالح أحد البنوك الدائنة، وبقي تشيلسي يرزح تحت تأثير هذه الأزمة الخانقة عقدًا من الزمان، مارس خلاله لعبة الصعود والهبوط مراتٍ عدة، قبل أن ينجح رئيس النادي آنذاك كين بايتس، في استعادة ملكية الملعب التاريخي عام 1992 بعد صراعات قانونية طويلة.
ومع عودة الستامفورد بريدج عادت الحياة إلى البلوز، فعاشوا فترةً من الاستقرار أثمرت عن عودة النادي إلى درب البطولات بعد غياب 26 عامًا، بفوزه بلقب كأس الاتحاد الإنجليزي للمرة الثانية في تاريخه عام 1997، على يد مدربه ولاعبه الهولندي الشهير رود خوليت، ومعه مجموعة من النجوم كالويلزي مارك هيوز والثلاثي الإيطالي الرائع جيانفرانكو زولا وروبيرتو دي ماتيو وجيانلوكا فيالي، الذي استلم دفة تدريب الفريق في الموسم التالي بعد اعتذار خوليت عن الاستمرار، فلم يخيب الإيطالي الآمال المعقودة عليه، واستطاع قيادة البلوز للفوز بلقبهم الثاني في كأس الكؤوس الأوروبية عام 1998، وأضاف إليه لقب رابطة الأندية المحترفة في نفس الموسم، الذي شهد كذلك فوزهم بلقب كأس السوبر الأوروبية، قبل أن يكرر نجاح سلفه خوليت بالفوز بكأس الاتحاد الإنجليزي للمرة الثالثة في تاريخ تشيلسي عام 2000، ويضيف عليه لقبًا ثانيًا في الدرع الخيرية نفس العام، ليترك بعدها مهمة التدريب لإيطالي آخر يفوقه سنًا وتجربةً هو كلاوديو رانييري.
أعوام النهضة
لم يُكتب لرانييري النجاح مع البلوز، ففشل في تحقيق أي إنجازٍ يُذكر خلال ثلاثة مواسم متتالية، وشهد عام 2003 حدثًا بارزًا في تاريخ النادي، تمثل بانتقال ملكية النادي إلى الملياردير الروسي رومان أبراموفيتش، الذي آلى على نفسه أن يحول تشيلسي خلال سنواتٍ قليلةٍ إلى نادٍ عالمي ينافس على جميع الألقاب الممكنة، ولم يدخر جهدًا ولا مالًا من أجل الإيفاء بعهده، فطفق ينفق ملايين الدولارات لشراء نجومٍ قادرين على صنع الانتصارات، فأتى بصانع الألعاب الآرجنتيني خوان سيباستيان فيرون والجناح الإيرلندي داميان داف والهداف الروماني أدريان موتو، وأبقى على المدرب رانييري ومعه ثلة النجوم المتواجدين في الفريق سابقًا، كالدانماركي غاسبر غرونكيار والهولنديين بوديفين زيندن وجيمي فلويد هاسيلبانك والمدافع الفرنسي ويليام غالاس، إضافةً إلى النجمين الصاعدين جون تيري وفرانك لامبارد، الذين أصبحا من كبار رموز البلوز فيما بعد.
لم تؤتِ مخططات أبراموفيتش أكلها في الموسم الأول، ففشل تشيلسي في تحقيق أي لقب، فما كان من مالكه الغاضب إلا أن قام بإقالة المدرب رانييري، والاستعانة بخدمات المدرب البرتغالي الشهير جوزيه مورينو، الذي قام بدوره بثورة انتقالات تخلص فيها من لاعبين كثر واستقدم آخرين، على رأسهم الهداف العاجي ديديه دروغبا والحارس التشيكي العملاق بيتر تشيك والجناح الهولندي الماهر آرين روبن، فنجح معهم في كتابة تاريخٍ جديدٍ لأزرق لندن من خلال إحراز سلسلة ألقابٍ، بدأها ببطولة الدوري الإنجليزي وكأس الأندية المحترفة في موسمه الأول 2004-2005، وأتبعها ببطولة دوري ثانية أضافها إلى الدرع الخيرية التي أحرزها مطلع موسمه الثاني، قبل أن يختتم فترته التدريبية الأولى مع تشيلسي بالفوز بكأسي الاتحاد الإنجليزي ورابطة الأندية المحترفة عام 2007، ليترك بعدها دفة تدريب البلوز متأثرًا ببضعة مشاكل سببها تدخل الثري الروسي في صلب عمله، وليأخذ مكانه أفرام غرانت، فيفشل في تكرار نجاحات سلفه رغم بلوغه نهائي دوري أبطال أوروبا عام 2008، حين خسر النهائي بضربات الترجيح أمام غريمه مانشستر يونايتد بعد زلة جون تيري الشهيرة.
ولم يكمل غرانت موسمًا ثانيًا مع البلوز، فتمت إقالته في منتصف الموسم بعد سلسلة نتائج سلبية، ليحل محله الهولندي غوس هيدينك الذي نجح في قيادة الفريق إلى الفوز بكأس الاتحاد الإنجليزي عام 2009، ليعتذر بعدها عن المتابعة ويترك مكانه للإيطالي الخبير كارلو أنشيلوتي، الذي افتتح موسمه الرائع بالفوز بكأس الدرع الخيرية، قبل أن يقود الفريق إلى إحراز ثنائية الدوري والكأس الإنجليزيين لأول مرة في تاريخه عام 2010، ولكن فشله في الحفاظ على نجاحاته في موسمه الثاني مع البلوز أدى إلى إقالته، والاستعانة بالبرتغالي الشاب أندريه فيلاش بواش بداية موسم 2011-2012 على أمل أن يسير على خطى مواطنه مورينو في حصد البطولات، ولكن الرياح جرت بما لا تشتهي سفن بواش، فأقيل من منصبه منتصف الموسم، ليستكمل المهمة من بعده لاعب البلوز السابق روبيرتو دي ماتيو، الذي عمل على توظيف مجهودات محاربي الفريق القدامى وعلى رأسهم فرانك لامبارد – هداف البلوز التاريخي برصيد 210 هدف – لاستعادة نغمة البطولات، فكان له ما أراد، بفوزه أولًا بلقب كأس الاتحاد الإنجليزي، قبل أن يُوفق في تحقيق نجاحٍ غير مسبوقٍ في تاريخ البلوز، بإحراز لقب أمجد البطولات الأوروبية، دوري أبطال أوروبا، وذلك بعد انتصاره بضربات الترجيح على العملاق الألماني بايرن ميونيخ في أرضه وبين جماهيره في نهائي عام 2012.
عودة السبيشل وان
لم يتمكن دي ماتيو من الحفاظ على منصبه رغم النجاح المذهل الذي حققه في أول مواسمه، فقام أبراموفيتش – كما جرت العادة – بإقالته منتصف الموسم التالي بعد خروجه من مرحلة المجموعات في دوري الأبطال، وعين مكانه بشكل مؤقت الإسباني الخبير رافا بينيتيز، الذي أبى إلا أن يترك بصمته مع النادي رغم الشهور القليلة التي قضاها في تدريبه، فقاده إلى إحراز بطولة الدوري الأوروبي عام 2013، ليترك مكانه بعدها إلى البرتغالي جوزيه مورينو، الذي هزه الحنين إلى بيته الأزرق القديم، فعاد إليه مطلع موسم 2013-2014 محملًا بوعود من المالك الثري بعدم التدخل في شؤونه التدريبية، فقضى الـ “مو” موسمه الأول في إعادة هيكلة وترتيب البيت الأزرق، ليبدأ موسمه الثاني بفريقٍ مكونٍ من خلطةٍ ناجعةٍ، ضمت نجوم الفريق الخبراء كالكابتن جون تيري والمدافع الهداف إيفانوفيتش ولاعب الوسط البرازيلي راميريز، إلى جانب النجوم الشبان كالفنان إدين هازارد وغاري كاهيل وأثبيلكويتا وأوسكار وويليان، والذين ضم إليهم رباعيًا متألقًا مكونًا من الحارس الرائع كورتوا، ولاعبي الوسط الممتازين ماتيتش وفابريغاس، إضافةً إلى الهداف دييغو كوستا، فأصبح لديه فريقٌ متكاملٌ نادر العيوب، استطاع من خلاله اكتساح أغلب منافسيه هذا الموسم، ليحرز لقب رابطة الأندية المحترفة، قبل أن ينجح في الفوز بلقب الدوري الإنجليزي للمرة الخامسة في تاريخ البلوز، والثالثة على يد السبيشال وان، صانع أفراح الستامفورد بريدج في العصر الحديث.
حب إلى الأبد
ويبقى صرح الستامفورد بريدج بمقاعده التي تربو عن 42 ألفًا، شامخًا كالطود في قلب عاصمة الضباب، يحكي قصة نادٍ عشقه فاحتضنه لأكثر من 110 عامًا، قضى معظمها قابعًا في الظل دون أن يكون له أي شأن يُذكر على خارطة كبار أندية اللعبة، إلى أن جاء من أغراه سحر الملعب التاريخي، فانتشل معشوقه من غياهب الإهمال والنسيان ومضى به نحو عالم الشهرة والإنجازات، ليحقق أسود لندن الزرق في أعوامهم الـ12 الأخيرة ما لم يحققوه طوال تاريخهم، ويتمكنوا خلال هذه الفترة الوجيزة من حصد إنجازاتٍ وبطولاتٍ بوأتهم مكانةً محترمةً بين كبار الأندية الإنجليزية والعالمية.