اثنتا عشرة سنةً مرت، كانت أمُه ترص له القرش فوق القرش، وتخبئ من راتبه أكثره، حتى إذا خرج من سجون الاحتلال، وجد ما يعينه على مواصلة الحياة، وتعويض ما فات!
خرج المجاهد القسامي “باسم” ليجد آلافًا عدة من الدولارات، جمعها له أهله شهرًا فشهر من “راتب الأسير” الذي خصص له خلال سجنه الطويل، مبلغٌ سال له لعاب قريبه “فريد” المعروف بمشاغباته ونصبه واحتياله!
لم يكن باسم المسكين، القابع في سجنه لسنين، مطلعًا على تقلبات أحوال فريد وقصصه الكثيرة، وفي غفلةٍ من الأهل والأقارب، اقترح فريد على باسم أن يشتري له سيارةً تليقُ به، وقعت له بسعرٍ مغرٍ جدًا، ولا بد من الاستعجال حتى لا تفوت الفُرصة!
ثلاثة عشر ألف دولارٍ، هي جل أموال باسم المسكين، ذهبت أدراج الرياح في عملية نصبٍ محبوكة، فلم يجد باسم غير الشرطة سندًا قانونيًا، فاعتقلت الجاني، وحققت معه، واعترف بالواقعة، وزعم أنه أنفق الأموال، وسدد بها ديونًا لا حصر لها، وفعل وفعل! فتم تحويله إلى المحكمة التي قضت عليه بالسجن أشهرًا، وبتسديد المبلغ مائة دولارٍ كل شهر! وصار يدفع شهرًا ويتأخر ثلاثة! فكان المال في حكم الضائع البائد!
هذه قصةٌ حقيقيةٌ – ما خلا الأسماء – اطلعتُ على وقائعها بغزة، كان أحد عناصر القسام، وأسراه المحررين طرفًا مجنيًا عليه فيها، لكن تداولها كان علنيًا وفي إطار القانون بالكامل، وهذا ما استفاد الجاني بوضوح منه، لكنه القانون!
كل الأجنحة العسكرية في الفصائل تمتلك في غزة جهاز أمنٍ خاص، أو أكثر، هذه الأجهزة ليست منافسةً للأجهزة الأمنية الحكومية على الأرض، ولا تتقاطع اختصاصاتها بها، بل لها عناية واحدة بالدرجة الأولى: “أمن المقاومة”! أو بالأحرى: “أمن المقاومة الداخلي”! وهذه الأجهزة وأحجامها وكفاءتها متفاوتة بطبيعة الحال بين تنظيم وآخر، لكن وجودها ضرورةٌ لا بد منها.
ولأجهزة أمن المقاومة صولاتٌ وجولاتٌ مع العدو، وضرباتٌ مشرفة تفوقت فيها عليه، وأذاقته طعم الهزيمة مرتين: مرة بالقتل، وأخرى بالتفوق الأمني، وما عملية “ثقب في القلب” عنا ببعيد، حيثُ استغفل المجاهد القسامي، عمر سليمان، طبش ضباط الموساد الصهيوني، ونجح في خداعهم، حتى دخل عليهم دخوله الأخير، وعلى وسطه الحزام الناسف، ففجر نفسه بينهم!
حالات كثيرة أخرى، تم تجنيد عملاء مزدوجين، وتوجيه ضربات أمنية، واستلال معلومات مهمة، ودارت معارك في الخفاء، لا يعرف كنهها ولا حلاوتها ومرارتها إلا العدو واستخبارات المقاومة!
هذه الأجهزة لا تتعرض للقضايا الجنائية الاعتيادية المرتكبة من عامة الشعب، إذ هي اختصاص الأجهزة الأمنية الحكومية، ولا تحقق، أيضًا، في جرائم أفرادها العادية، فهو اختصاص الحكومة أيضًا، إلا ما كان له صلةٌ بأمن المقاومة، أو أثار على صاحبه شبهة أمنية، حيث يُحظر على الأجهزة الحكومية أن تحقق مع الشخص، أو تسأله عن أسرار جهازه العسكري، أو تعتقله من الأصل من دون تنسيق مع الفصيل المقاوم الذي ينتمي إليه!
لنفترض أن عنصرًا من القسام أو سرايا القدس مثلًا عدا على جيرانه في خصومةٍ فأكل حقهم، أو قتل واحدًا منهم، في هذه الحالة، لا تجد الأجهزة الأمنية حرجًا أو إشكالًا، في اعتقاله ومحاسبته ومحاكمته جهارًا نهارًا، رضي فصيلُه أم سخط؟!
وكذلك من يُشتبه بوقوعه في وحل العمالة من عامة الشعب، يتولى أمره جهاز الأمن الداخلي الحكومي، ويحقق معه في مقراته المعروفة، ويحيل ملفه للقضاء حال تمامه، ويُحاكم الرجل، فيُسجن أو يُقتل بحسب جُرمه، وهي أخبارٌ تخرج للصحافة بين الفينة والأخرى!
لكن لو وجدت الأجهزة الأمنية شبهة ارتباط بالاحتلال على أحد عناصر المقاومة، فإنها تبلغ – بكل سرية – الاستخبارات العسكرية التابعة لذلك الفصيل المقاوم، فيقوم بالتحقيق في القضية، ثم حبسه سرًا إذا استلزم الأمر، ثم تصفيته إن ثبتت تهمة الارتباط بالاحتلال، والتسبب في مقتل مقاومين، ويقتصر حينها دور الأجهزة الأمنية الحكومية، على فرز لجنةٍ مختصة تتابع الأمر، وتتوثق من كل خطوةٍ في التحقيق، منعًا لحصول ظلم، أو قتلٍ بالظنة، أو عقوبةٍ دون استيفاء الأدلة!
هذا الواقع الغزاوي ليس حكرًا على كتائب القسام بحكم ارتباطها بالجهة المسيطرة على غزة، بل هو حق للمقاومة باختلاف فصائلها، وهي تمارسه في سريةٍ تامة، وتواصل كامل بين الجهات ذات العلاقة، الجناح العسكري، والأجهزة الأمنية، وعائلة المُتهم! وفي معظم الحالات، تُبدي العائلات تفهمًا كبيرًا، وتعاطيًا عاقلًا ومسئولًا مع الموضوع، ثقةً بالمقاومة، واحترامًا لها، وحرصًا على العائلة وسمعتها، إذ إنه في كثيرٍ من الأحيان، يكون الجُرم دون الارتباط الكامل بأجهزة الاحتلال، ويتسبب خروج القضية للعلن في تشويه المُعتقل، ونسج القصص والأساطير حوله، وحول الجهة التي ينتمي إليها، ضمن تصفية حساباتٍ سياسية قذرة بعيدةٍ كل البُعد عن الأخلاق الوطنية!
بعد كل معركةٍ تدورُ بين الاحتلال الصهيوني، والمقاومة في غزة، يعودُ كل طرفٍ لمراجعة حساباته، والتوثق من أدائه، والبحث عن مواطن الخلل، والعدو الصهيوني – خاصة في الحرب – يهمه إحراز النقاط أكثر بكثير مما يهمه الحفاظ على عميله! أحد الفصائل المقاومة مثلًا، فقد ثلث قيادته العسكرية خلال الحرب الأخيرة، رغم الحرص الأمني الشديد، واتخاذ جميع الاحتياطات الأمنية، لم يجد تفسيرًا سوى وجود عينٍ للعدو في مستوى مرموق، أجري البحثُ والتحقيق، وتم القبضُ على الخائن، ومحاكمته، وتصفيتُه، في تنسيق تامٍ بين جهازه، وهيئةٍ أمنية حكومية، وتواصل – من الجهتين – مع عائلته.
في ليلةٍ ليلاء من ليالي الحرب الأخيرة على غزة، مرت طائرة صهيونية، فوق إحدى المناطق شمال غزة، فضربت في لحظات، عدة كمائن للمقاومة، تابعةٍ لفصيلٍ واحد، ويجمعها رباطٌ تنظيمي واحد! انتقتهم الطائرة كما لو أن قائدها هو الذي وضعهم هناك! لا يمكن أن تمر حادثةٌ كهذه مر الكرام على المقاومة، ولا تهدأ أجهزة أمنها حتى تفهم كيفية حصول ذلك!
إن أسوأ هفوةٍ يمكن أن يقع فيها متابع هو قياس المقاومة الغزاوية على الأنظمة الديكتاتورية المجرمة، وتشبيه ما تقوم به لحفظ أمنها الداخلي، بعدوان الأنظمة على مخالفيها السياسيين، فليس خلافًا سياسيًا ولا فكريًا ولا إداريًا ما يجعل المقاومة تعتقل أحد أبنائها، والمسجون هنا ليس مواطنًا عاديًا، بل هو ابنها الذي عرف يوم انتمى إليها أن مثل هذا يمكن جدًا أن يحصل معه إذا تورط في شيء يثيرُ الشبهة الأمنية عليه!
ومما يجدرُ التنبيه إليه – وهو من البدهيات – أنه ليس كل من تحقق معه المقاومة من أبنائها، ساقطٌ في وحل العمالة، لكن ما أعرفه أن البرئ منهم لا يستغرق ملفه أيامًا، وأن كل من طالت عليه مدة الحبس لديها، فإن احتمال براءته يكون معدومًا، لكن نوع جُرمه ومستوى تورطه لا يعلمه إلا هيئة التحقيق معه، والجهة الرقابية الحكومية، والسرية والكتمان هما ما يحافظان عليه وعلى سمعته وليس على أمن المقاومة فقط!
إن المطالبة بإعمال الإجراءات القانونية العادية، ودعوات كشف الأوراق كلها في مثل هذه الحالات، هو عُدوانٌ على المقاومة، وعبث بأمنها، وبدماء أبنائها، ويوم تنحرف المقاومة – لا سمح الله – عن الجادة، وتعمد لاستغلال هذه الميزة التي أُعطيت لها، من أجل الافتئات على أبناء الشعب عامةً، أو تصفية الحسابات، أو غير ذلك، فسيكون لهذا الطرح وجاهة أو معنى، أما وهي تجري في هذا المستوى من المهنية والدقة والسرية، مع كون هذه الحالات نادرة الوقوع أصلًا، فإن كل تلك الدعوات ستبقى دائرةً في أفلاك الجهل والعبث والسفه!
المصدر: العربي الجديد