تمر الدولة المصرية الآن ومنذ عامين بالتحديد بأزمة داخلية طاحنة أدت إلى شروخ مجتمعية عدة على كافة الأصعدة، وذلك عقب الإطاحة بأول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر عن طريق انقلاب عسكري نفذه وزير الدفاع في تلك الفترة والرئيس الحالي الجنرال عبدالفتاح السيسي، هذا الانقلاب العسكري معضلته الأساسية أنه أفرز نظام يبدو مشوهًا إلى حد كبير بخليط من النخبة المدنية التي تعسكرت عقب ذلك الانقلاب بالإضافة إلى خطاب عسكري وأمني ينتمي إلى الفئة الشعبوية من الخطابات والتي لا أحد يُنكر أنها اجتذبت تأييدًا شعبيًا لذلك الانقلاب.
الإعلام العسكري، أحد مخرجات هذا النظام الوليد، أضفى وصف “الثورة” على الانقلاب بسبب وجود هذا التأييد الشعبي بعد أن تم حشد وتجييش فئات من الشعب المصري للإطاحة بحكم الرئيس السابق محمد مرسي باعتباره ممثلًا لجماعة الإخوان المسلمين التي أصدرت هذه الفئات عليها وصف “الفشل في الحكم”، ولكن نظام الثالث من يوليو استغل هذا الاحتقان وصدّر الجماعة كعدو أوحد للشعب ولم يكتف بوصف ما حدث بأنه احتجاجات على “الفشل” كما تم الترويج في بداية الأمر، ولكن تخطى الأمر للشيطنة واستمداد شرعية البقاء في الحكم من خلال وضع الجماعة في خانة “العدو الوحيد” للنظام والذي أصبح يتلبس ثوب الدولة والمجتمع، إذ اعتبر من يعارض هذا النظام معارضًا للدولة وللمجتمع.
فمنذ يوم الثالث من يوليو لم يتوقف النظام العسكري الوليد لحظة عن اختزال مشكلته ومعركته الداخلية بحصرها في جماعة الإخوان المسلمين مهما حدث من تغييرات أو تقلبات أو مستجدات في المشهد، فقد اعترض مؤيدو الرئيس السابق محمد مرسي من الفصائل الإسلامية على إجراءات عزل الجيش له وأقاموا اعتصامين بمحافظتي القاهرة والجيزة، فكان رد وزير الدفاع آنذاك عبدالفتاح السيسي أن طلب من الشعب تفويضه في مواجهة “الإرهاب المحتمل” من جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها.
دبرت السلطة ونفذت أكثر من مجزرة بحق الإسلاميين وفضت اعتصاماتهم بقوة مفرطة وواجهت تظاهراتهم بقمع غير مسبوق في تاريخ الدولة المصرية، وسارت أجهزة السلطة الأمنية في تعقب قيادات الإسلاميين واعتقالهم خاصة المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين التي ترفض الاعتراف بالأمر الواقع كما يريد النظام الحالي، الاعتقالات طالت الصفوف التنظيمية الأخيرة في الجماعة بعد أن أنهت على الصف الأول والثاني والثالث بها، ورغم ذلك فالنظام حتى هذه اللحظة لا يرى أزمته سوى في الصراع مع جماعة الإخوان المسلمين.
حادثة اغتيال النائب العام المصري الأخيرة قبل أيام قليلة أُعلن عنها في الصباح وبعد دقائق معدودة خرجت وسائل الإعلام الموالية للنظام تتهم الجماعة بالوقوف وراء هذا الحادث انتقامًا من النائب العام دون وجود أي تحقيقات أو أدلة، وإنما يكفي أن تُلقي باللوم على عدو النظام في أي مصيبة تحل به دون وجود أي إثبات لما تقول.
خرجت تحريات تقول إن ثمة ضابط صاعقة مفصول من الخدمة يدعى هشام عشماوي، هو من يقف خلف حادثة اغتيال النائب العام بصفته مسؤول عن العمليات الميدانية العسكرية لتنظيم “أنصار بيت المقدس” أو ولاية سيناء بعد إعلانه البيعة لتنظيم الدولة الإسلامية، لم يجد النظام ولا أبواقه حرجًا في الترويج لهذا الخبر رغم أنهم منذ سويعات قليلة كانوا يتهمون جماعة الإخوان المسلمين بالوقوف وراء الحادث، بل إن رأس الدولة نفسه يروج لهذا الأمر أيضًا في حديثه الذي تزامن مع تشييع جثمان النائب العام، حيث يؤمن السيسي أن المعتقل محمد مرسي هو من أعطى إشارة تنفيذ هجوم النائب العام وهو ممنوع من رؤية البشر لمدة عامين، وقد توعد السيسي بإحداث تغييرات في القانون تؤدي إلى سرعة إعدام قيادات الإخوان.
بعد هذه الحادثة ببضعة أيام جرت اشتباكات عنيفة في شمال سيناء بالتحديد في مدينة الشيخ زويد بين مسلحين من عناصر تنظيم أنصار بيت المقدس “ولاية سيناء” وبين قوات الجيش المتواجدة في المنطقة، المعلومات الواردة من هناك تفيد أن عناصر التنظيم هاجموا أكثر من 15 نقطة عسكرية وقطعوا خطوط الإمداد عنها وحاصروا قسم العريش بمن فيه لمدة ساعات، ونشرت صحف مصرية أن أعداد القتلى من جانب الجيش تخطت 70 قتيلًا ثم تراجعت بفعل ضغط الشؤون المعنوية للجيش التي رفضت الاعتراف بهذه الأعداد.
الرد من جانب النظام على ما يحدث في سيناء كان بتصفية 13 قياديًا بجماعة الإخوان المسلمين في مدينة السادس من أكتوبر أثناء تواجدهم في اجتماع لما يُعرف بـ “لجنة كفالة أسر الشهداء والمعتقلين” والادعاء بأنهم قاوموا قوات الأمن، ولم تلبث الأبواق الإعلامية أن خرجت لتلعن في الجماعة عدو النظام وتحملها مسؤولية ما يحدث في سيناء، إلى أن وصل الحد ببعض الإعلاميين أن طالبوا بإعدام قيادات وأفراد الجماعة دون محاكمات داخل السجون بدعوى مكافحة الإرهاب.
نظام 3 يوليو في مصر لا يريد أن يتحمل أي مسؤولية أبدًا سواء عن تردي الأوضاع الاقتصادية أو الفشل السياسي في تطبيق خارطة الطريق التي أعدها بنفسه أو الفشل الأمني في الشارع المصري عمومًا وفي سيناء بالتحديد أو وعوده الزائفة المتكررة التي يستكبر أن يخرج ليبررها، والرد الوحيد الجاهز أن جماعة الإخوان المسلمين وأفرادها هم المسؤولون عن ذلك حتى لو قتلناهم يوميًا ووضعناهم في السجون وشردنا الباقيين منهم إلا أنهم لا زالوا يتحملون فشل النظام سواء كانوا في الحكم أو في المعتقلات.
فحادثة مثل تفجير مديرية أمن الدقهلية التي حدثت أواخر عام 2013 وتبنتها جماعة أنصار بيت المقدس، كان رد النظام المصري عليها إدراج جماعة الإخوان المسلمين ضمن قوائم الجماعات الإرهابية، فالنظام يتجاهل تمامًا معركته مع تنظيم أنصار بيت المقدس ولا يرى سوى معركته مع جماعة الإخوان المسلمين، حتى أنه يخوض حربه في سيناء وأصدائها الإعلامية في القاهرة تكون باسم الحرب على إرهاب الإخوان في سيناء.
لطالما دأب هذا النظام على وضع البيض كله في سلة واحدة ليستمد شرعية بقائه من هذا الوضع، فشباب الأولتراس الذين لديهم عداء مع التعامل الأمني لوزارة الداخلية، يتم تدبير مجزرة بحقهم كمجزرة استاد الدفاع الجوي ومن ثم اتهامهم بأنهم عناصر إخوانية تثير الشغب، وحينما يقتل النظام الشباب داخل الجامعات لا يجد النظام تبريرًا سوى القول بأنه مخطط إخواني لنشر الفوضى في الجامعات، وعلى الصعيد الاقتصادي البائس يرى النظام أن حربه على إرهاب الإخوان هي السبب الرئيسي في تردي الوضع الاقتصادي بالأساس، وكل ما دون ذلك فهو تفاصيل لا تستحق المناقشة.
حتى أن النظام لا يريد أن يلتفت إلى أعدائه الأكثر تأثيرًا من جماعة الإخوان المسلمين التي أنهكتها سنتين من الاحتجاجات في الشارع بالإضافة للقمع والتنكيل من جانب النظام، فلم يدرك السيسي ونظامه إلا مؤخرًا أن هناك لوبي من رجال الأعمال المنتمين للعهد المباركي قد حنقوا عليه وشكلوا ضده تحالفًا لمعاقبته في الانتخابات البرلمانية بعد أن حاول تحجيمهم لصالح بيزنس القوات المسلحة، ولم يكتشف نظامه أيضًا أن هناك صراعات داخل الأجهزة السيادية وحرب جنرالات داخلية أهم من تلك العبارة المزعومة “الحرب على الإرهاب”.
لم يؤمن النظام بوجود أطراف أخرى في الصراع إلا بعد أن استشعر السيسي خطرًا على سلطته من جانب الجنرالات المتقاعدين سواء بالداخل أو بالخارج، ولكنه لا زال متجاهلًا أن هناك طرفًا آخر قد نمى في وسط هذه الفوضى واستطاع أن يتحدث بلغة السلاح والقوة التي لا يعرف سواها هذا النظام، هذا الطرف الذي يأبى النظام الاعتراف به ربما أبرز تجلياته هو تنظيم “أنصار بيت المقدس” لكن لا يمكن إغفال أن العاصمة سيأتي عليها الدور إن عاجلاً أم آجلاً.
فلا يخفى على أحد من الأجهزة الأمنية للجنرال وجود ما يسمى بتنظيم “أجناد مصر” وبعض التنظيمات الشبابية الأخرى التي تحبو في هذا الاتجاه، وربما يخرج الإخوان المسلمين من الصراع في وقت قريب بعد تضاؤل حجمهم على الأرض ليتركوا النظام فريسة لما زرع خلال عامين من تنكيل وإرهاب ولكنه إرهاب من جانب الدولة، والواقع يقول إن النظام لا يريد الاعتراف بوجود أطراف أخرى في هذا الصراع حتى يتمكن من ربط ما يحدث بشكل عام رغم اختلاف تفاصيله بمشروعه السياسي القائم على مواجهة ما يزعم من “إرهاب” مدعيًا أن أيًا كان مصدر هذا الإرهاب فهو لا يعرف غير خصومته مع جماعة الإخوان المسلمين فحسب.