منذ إعلان الاتفاق النووي مع إيران في أبريل الماضي، وبدء الحديث عن رفع العقوبات عن الاقتصاد الإيراني، والتي ارتفعت جزئيًا بالفعل عما يقدّر بحوالي سبعة مليارات دولار، شرعت مختلف شركات النفط والغاز العالمية في فتح باب التفاوض مع الحكومة الإيرانية، في إطار المنافسة الشرسة التي يتوقع أن تشتعل مع رفع العقوبات كاملة بشكل رسمي، لتتمكن الشركات الأوروبية والأمريكية من الاستثمار في حقول النفط والغاز الإيرانية بشكل مفتوح.
في هذا السياق، يبدو وأن أوروبا تحديدًا تضع عينيها على السوق الإيراني؛ أولًا لاهتمامها بالغاز الذي قد يخفف اعتمادها على الغاز الروسي، وثانيًا لرغبتها في دخول أسواق جديدة تحرك بها رأس المال الأوروبي، والذي يعاني من أزمة اليورو وانغلاق السوق الروسي، إثر العقوبات التي أوقعها الغرب على موسكو بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، وليس أدل على ذلك من الحراك الذي تشهده العلاقات بين الطرفين فيما يخص هذا الملف، فوزير التجارة والصناعة، محمد رضا نعمت زاده، سيتوجه الشهر المقبل للنمسا لحضور مؤتمر الغرفة التجارية النمساوية، الذي يضم مستثمرين من كافة أنحاء أوروبا لمناقشة الفرص الاستثمارية في إيران.
وزارة الخارجية الثانية
منذ وصول حسن روحاني لمقعد الرئاسة في إيران، وقبل الدخول في أية مفاوضات بخصوص الملف النووي، كانت إيران قد بدأت جهودها بالفعل لفتح باب تجارة النفط والغاز مع أوروبا، حيث عقد الرئيس الإيراني اجتماعات مع القيادات التنفيذية لشركات بريتيش بيتروليوم البريطانية، إي إن أي الإيطالية، شِل الهولندية، وتوتال الفرنسية على هامش مؤتمر دافوس العام الماضي، وهو الاجتماع الذي قال فيه إن “وزير النفط سيلعب دور وزير الخارجية الثاني فيما يخص ملف الطاقة.”
تباعًا، تم تعيين علي ماجدي نائب رئيس الوزراء الإيراني، والمتخصص في تجارة النفط والغاز العالمية، كسفير لبلاده لدى ألمانيا في سبتمبر 2014، وهي القوة الأوروبية الأبرز كما نعرف، وقد بحث مع المسؤولين الأوروبيين خطوط نقل الغاز المحتملة من إيران إلى أوروبا على هامش المفاوضات بخصوص الملف النووي، وتبعه وزير النفط بيجان زنغنه بتصريح في فبراير الماضي، قال فيه إن بلاده ستسمح بتشكيل شراكات طويلة الأمد من 10 إلى 25 سنة مع الشركات العالمية، وستكون شروطها مرنة ليتسنى للشركات التنقيب عن النفط بحرية أكبر، ووضع أرباح نشاطاتهم في إيران على تقاريرهم المالية.
يعني ذلك أن طهران ستغيّر من سياساتها التقليدية تجاه نشاط الشركات الأجنبية في حقول النفط والغاز الخاصة بها تلبية لما طلبته تلك الشركات لدخول السوق الإيراني، وهي السياسة التي تعود إلى ما قبل ثورة 1979، وتسمح للمستثمرين الأجانب بالعمل فقط كمقاولين داخل إيران لصالح الحكومة، دون أي حقوق فيما يخص حقول النفط أو أي ملكية لأسهم إيرانية، وهذا التغيير جذب شركتي توتال وإي إن أي، وهما أول من فتح باب المفاوضات مع طهران، وشركة توتال تحديدًا أبدت اهتمامها بالعودة إلى حقل غاز جنوب پارس الأكبر في العالم، والذي تشاركه إيران مع قطر، بعد أن توقفت في السابق عن العمل فيه نتيجة العقوبات.
الألمان في أول الطابور
دونًا عن كل بلدان أوروبا، والذين تقلقهم هيمنة روسيا على الغاز ويودون دخول السوق الإيراني لتعويض خسائر العقوبات الروسية، تُعد ألمانيا البلد الأكثر اهتمامًا وتحمسًا لتطبيع العلاقات بشكل شامل مع إيران، أولًا لأنها بطبيعة اقتصادها تصدر حوالي نصف إنتاجها، مما يعني أن التصدير أساسي لها أكثر من أي بلد أوروبي آخر، وتعويض السوق الإيراني، البالغ تعداده حوالي سبعين مليون شخص، سيكون جيدًا بعد الخسارة الجزئية للسوق الروسي البالغ حوالي 120 مليونًا.
ثانيًا، تعاني ألمانيا تحديدًا في ملف الطاقة نظرًا لاعتمادها بنسبة 40٪ على الغاز الروسي، وأيضًا لإغلاقها كافة محطات إنتاج الطاقة النووية التزامًا منها بالتخلص من المفاعلات النووية، وهو القرار الذي اتخذته عقب أزمة تسريب مفاعل فوكوشيما في اليابان، وتحت ضغوط من الحركات المناصرة للبيئة والمعادية للطاقة النووية في البلاد، مما يعني أنها في حاجة ملحة لبديل فيما يخص الغاز أكثر من غيرها، كفرنسا مثلًا، والتي لا تزال تعتمد بشكل كبير على الطاقة النووية.
لوبي الطاقة الإيراني
على صعيد آخر، وكما تشي بذلك تحركات إيران السابقة، ونظرًا لعدم رفع العقوبات بالكامل، واحتمالية عودة التوتر بين واشنطن وطهران إذا ما وصل للرئاسة الأمريكية في العام المقبل رئيس من الجمهوريين، يبدو وأن إيران لا توطد علاقاتها مع شركات النفط فقط بحثًا عن الاستثمارات، ولكن تعزيزًا لقدرتها على استخدام تلك العلاقات في التأثير على صناع القرار في الغرب، كما فعلت أثناء التسعينات حين جذبت بعضًا من الشركات العالمية مقابل ممارستها الضغط لأجل تطبيع العلاقات معها في واشنطن وعدد من العواصم الأوروبية.
على سبيل المثال، في عام 1991، توصلت طهران لاتفاق مع شركة كونوكو الأمريكية، ومنحتها حق تطوير حقول غاز ونفط في إيران، ثم بدأت في اجتذاب الشركات الأمريكية لتقوم بحملة لتحسين صورة إيران، والترويج للانفتاح على النظام اقتصاديًا وإن ظل التوتر السياسي قائمًا، وهي جهود عززتها رئاسة محمد خاتمي التي بدأت عام 1997، حيث قام آنذاك برعاية تشكيل مجموعات لوبي إيرانية في الولايات المتحدة على غرار اللوبي اليهودي، لتظهر بالفعل مجموعة يو إس إيه إنجيدجUSA Engage ، والمجلس الأمريكي الإيراني الذي تكون مجلس إدارته من دبلوماسيين أمريكيين سابقين ومسؤولين في شركات نفط كبرى مثل تشِفرون وإكزون موبل وهاليبرتون، بيد أن تلك الجهود بالطبع تعطلت بعد رئاسة أحمدي نجاد من ناحية، وصعود الجمهوريين برئاسة جورج بوش الابن عام 2000، لتعود برئاسة روحاني واتفاق جنيف.
على مدار العقود المقبلة، وبينما ينفتح الاقتصاد الإيراني للعالم، سنشهد فتح أوروبا لنافذة جديدة لاستيراد الغاز تقلل من هيمنة الروس، كما سنرى تزايدًا في طابور شركات النفط والغاز العالمية المهتمة بالاستثمار في إيران، بشكل سيعزز من الأداء الاقتصادي والناتج القومي بشكل عام، وسيطور كثيرًا من السوق المحلي أيضًا، وعلى الناحية الأخرى، بينما يستفيد كل هؤلاء من الثروات الإيرانية، ستستفيد طهران كثيرًا من انتقال أحدث تقينات التنقيب عن النفط واستخراجه إليها، بشكل يجعلها أكثر قوة في سوق الطاقة ربما في المستقبل البعيد.