ترجمة وتحرير نون بوست
هذه حكاية عن الكراهية والعار والأسماك، ففي الصباح الباكر من يوم 17 يونيو تسللت مجموعة إلى كنيسة تكثير الخبز والسمك في الطابغة، على شاطئ بحيرة طبرية، وحاولوا إضرام النار في أجزاء مختلفة من المبنى، وحرقوا الأناجيل والكتب الدينية الأخرى، وتسببوا بانهيار السقف جزئيًا، وخربوا الفناء الداخلي للكنيسة، وكتبوا على الجدران عبارات تنم عن الحقد والكراهية مثل “سيتم تحطيم الرموز الكاذبة”، “الموت لغير اليهود”، وآيات من التوراة تشير إلى “الوثنيين”.
بعد أيام قليلة من وقوع الحادث، لا تزال رائحة الاحتراق عالقة بالمكان، وفي البداية لم يسمح لنا حارس الكنيسة الفلسطيني، والذي هو بذات الوقت القائم على خدمتها، بالدخول إليها، ولم يفتح البوابة للصحفيين قائلًا “إن الشرطة وضباط التأمين يريدون أن يبقى المكان مطوقًا”، لكن عندما تناقشنا معه حول تفاصيل الحادث، سمح لنا بالدخول لالتقاط بعض الصور، وشرح لنا بعض وقائع الحادثة بقوله، “لقد كنت موجودًا عندما اندلع الحريق، فالحادثة حصلت في الساعة الثالثة والربع صباحًا، حيث سمع أحد الرهبان الألمان صوت الضوضاء، وانتفض من سريره، ليدق ناقوس الخطر طلبًا للمساعدة، وتمت محاولة إخماد حريق من الحريقين اللذان يضرمان بالنيران”.
ما من شك في أن هذا الفعل يشكل جريمة كراهية، حيث تم تصنيفه والتنديد به وفق هذا الوصف من قِبل الحكومة الإسرائيلية ورئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، كما وصفت صحيفة هآرتس الإسرائيلية إحراق الكنيسة بأنه “عمل إرهابي”، وانتقدت الحكومة لعدم بذلها المزيد من الجهود ضد المتعصبين المتدينيين اليهود، وقالت الصحيفة في مقال لها حول الموضوع “إن حكومة إسرائيل لن تتجاهل إحراق الكنيس، أو تدمير شواهد القبور في المقابر اليهودية، أو أي اعتداءات ضد اليهود، قد تحصل في بلدان أخرى، خاصة إذا تراخت الحكومات في التحقيق في هذه الجرائم”، ودعت في ذات المقالة الحكومة الإسرائيلية لـ “اجتثاث جرائم الكراهية من المناطق الخاضعة لسيطرتها”.
من خلال حديثنا معه، أفصح لنا القائم بأعمال الكنيسة الفلسطيني عن تشككه من جدية الإدانات الرسمية الإسرائيلية، حيث قال “لقد تعرضنا لـ43 هجمة على الكنائس والأديرة والمساجد في السنوات الأربع الماضية، والشرطة لم تقبض على أي شخص حتى الآن”، مضيفًا “قد يتم في بعض الأحيان أخذ بعض الشباب للاستجواب، ولكن فقط ليتم إطلاق سراحهم على الفور تقريبًا، لقد كان هناك حوادث مثل إلقاء رؤوس خنازير في المساجد، أو كتابة رسائل كراهية على جدران دير اللطرون قرب القدس”، ومن ثم أخفض صوته قائلًا “لقد كتبوا: يسوع قرد ومريم بقرة”.
“من هم؟” سألناه مستفسرين، وعندها ابتسم الحارس بسخرية وقال “نحن لا نعرف على وجه اليقين، ولكن تساورنا شكوك قوية بأنهم من الشباب اليهود المتعصبين، ربما قادمين من مستوطنة قرب نابلس، في العام الماضي جاءوا إلى فسحة صلاتنا في الهواء الطلق، أطفال مع معلميهم، دمروا صليبًا، وألقوا به في البحيرة، وقاموا بتحطيم بعض الكراسي والمقاعد، هذه الحادثة حصلت في يونيو من العام الماضي، أي قبل عام واحد بالضبط”، وتابع قائلًا “نعتقد أن العدوان ضد الكنيسة الذي حصل الأسبوع الماضي، قد تم ارتكابه من قِبل شخصين أو ثلاثة أشخاص، ولقد أعطينا تفاصيل لوحة سيارتهم الخاصة إلى الشرطة، كما التقطت الشرطة صورًا للأضرار، ولكن حتى الآن لم نحصل منهم على أي إجابة”.
مكان للحج المسيحي
“لا تقتصر الكنيسة فقط على كونها مكانًا للجذب الديني، بل إنها نقطة جذب بشري أيضًا” قال رجل أعمال إسرائيل يدعى سنير، الذي استقل طائرة قادمًا لإسرائيل من سان بيدرو سولا هندوراس، بمجرد سماعه عن الحادثة التي وقعت في الطابغة.
كيهودي علماني، لا يؤمن سنير حرفيًا بالقصة التوراتية حول معجزة يسوع، التي تقول بأنه قام بإطعام حشد مؤلف من 5000 شخص من الرجال والنساء والأطفال، عن طريق خمسة أرغفة من الخبز فقط، علمًا أن جميع الأناجيل الأربعة، متى مرقس لوقا ويوحنا، يروون أيضًا قصة تكاثر الخبز والأسماك.
كنيسة تكثير الخبز والسمك التي قامت بناء على هذه المعجزة، لها جاذبية كبيرة في الوقت الحاضر، فهي واحدة من الأماكن المسيحية الأكثر زيارة أثناء الحج في إسرائيل، وعلى الرغم من حقيقة أن العهد الجديد لم يكشف عن مكان حصول المعجزة، إلا أن المسيحيين الأوائل يعتقدون أنها وقعت في الطرف الشمالي الغربي من بحيرة طبرية، بالقرب من قرية كفر ناحوم.
في القرن الرابع بُنيت الكنيسة في الموقع المزعوم، وجاء الحجاج من أماكن بعيدة للصلاة في هذا المكان المقدس، وبعد قرنين من الزمان، تم بناء كنيسة بيزنطية أكبر في ذات الموقع، كانت مشهورة بفسيفسائها الرائعة، ولكن مع دخول الجيوش الغازية الفارسية والعربية في القرن السابع، قاموا بتدمير هذه الكنيسة.
بعد أكثر من 1000 سنة، وفي بداية القرن الـ20، وجد علماء الآثار الألمان مخططات الكنيسة والمذبح والفسيفساء البيزنطية الشهيرة لمعجزة الخبز والسمك، وفي عام 1933 أقيم هيكل خشبي فوق الأسس البيزنطية المحفورة والفسيفساء.
وفي عام 1948 دمرت ميليشيات الهاغاناه الميليشيات اليهودية قرية الطابغة الفلسطينية، والطابغة هو الاسم المعرب من الاسم اليوناني الأصلي هيبتابيجون أي الينابيع السبعة، وحينها عمدت مليشيات الهاغاناه إلى طرد أكثر من 300 شخص من قريتهم، ولكنهم تركوا الموقع الأثري دون أي ضرر يذكر، وفي عام 1982 تم بناء كنيسة جميلة جديدة في الموقع، استطاعت استقطاب المئات من السياح والحجاج يوميًا.
“عندما ترى حريقًا يشب في مكان مقدس بسبب الكراهية” يقول سنير، ومن ثم يتوقف مترددًا، ويتابع بحزن “ماذا يمكنني أن أقول؟ أشعر بالخجل”.
سنير يشعر بلحمة مع هذا المكان، ليس فقط بسبب جماله وجوه الساحر، ولكن أيضًا بسبب سمك البلطي (المشط)، وهي أسماك مياه عذبة تقطن في مياه هذا الموقع منذ زمن سحيق؛ فسنير جمع ثروته من تربية سمك البلطي (المشط) في هندوراس ودول أمريكا اللاتينية الأخرى، “البلطي، أو سمك القديس بطرس، ينحدر أساسًا من بحر الجليل (بحيرة طبرية)، وهذه الأسماك كان يتم صيدها بالفعل من هذا الموقع في العصور القديمة، وفي الوقت الحاضر، تتم تربية هذا النوع من السمك ويستهلك في أكثر من مائة دولة حول العالم” يشرح سنير.
لتقديم تعازيه لمجتمع الرهبان في الطابغة، والمسيحيين الفلسطينيين في الجليل، تبرع سنير بشحنة كبيرة من السمك والخبز لرجال الدين، كما قام أيضًا بتصنيع قمصان كُتب عليها عبارة “المعجزة ماتزال على قيد الحياة”، وآية من إنجيل متي تتحدث عن قصة السمكة التي تحمل المال في فمها.
ربما ساعدت أحلام معجزات الأسماك على تحقيق النجاح التجاري لسنير ليصبح رجل أعمال مشهور، ولكن حلمه الصهيوني بقي ممزقًا في خلده، حيث يقول “جاء والدي إلى هنا من بولند، مغادرًا منزله هناك عندما كان عمره 16 عامًا، في الأول من سبتمبر من عام 1939، وهو اليوم الذي غزا فيه الألمان بولندا، سار لمسافة 250 كيلومترًا، من تارناو إلى ترنوبل بغية الهروب، وهناك ألقى جيش ستالين الأحمر القبض عليه، وأُلقي في معسكرات العمل لمدة ثلاث سنوات، وعندما انتهت الحرب، جاء إلى هذا البلد لأنه كان يعتقد بأنه لا يوجد مكان بعد الآن لليهود في أوروبا، لم يكن والدي متدينًا على الإطلاق، لقد كان يسعى لسلامته وسلامة أسرته فقط”.
وتابع سنير مضيفًا “أمي ولدت في عام 1926 في فيينا، وعندما كان عمرها 12 عامًا، استطاع والدها وضعها على متن آخر قطار أقلع من النمسا، بعيدًا عن أيدي النازيين، ولم تشاهد عائلتها مرة أخرى بعد ذلك، حيث جاءت إلى هنا هربًا من المذابح والكراهية والتعصب، والسؤال: ألا تذكركم هذه الحادثة في الطابغة بهذه الكراهية والتعصب؟”.
موظف فلسطيني من الدير، لم يشأ الكشف عن اسمه، يتذكر يوم الأحد الذي أعقب الحادث، حين تجمع حوالي 6000 شخص من المسيحيين والدروز والمسلمين من الجليل، وجاؤوا إلى الطابغة احتجاجًا على تدنيس المواقع المقدسة، مدفوعين بشعور قوي بأن التخريب لا يتغذى من الآراء المتطرفة اليهودية حول كون المسيحيين وثنيين فحسب، وإنما أيضًا من العداء الشرس الذي يناصبه اليهود للمجتمع الفلسطيني في إسرائيل، ويذكر قائلًا “لقد أعطينا الشرطة بضعة أيام ليثبتوا بأنهم يأخذون هذه القضية على محمل الجد”، وأضاف “الناس غاضبون جدًا، وإذا لم يتم فعل شيء، قد تندلع مزيد من الاحتجاجات في الأشهر المقبلة”.
بالتزامن مع حديثنا مع الرجل الفلسطيني، اقترب شيخ درزي من الكنيسة، لإلقاء نظرة على الأضرار، وتقديم تعازيه لرجال الدين المسيحي، الشيخ أمين كنعان من قرية كفر يركاج يصف الحادثة بأنها “جريمة ضد الإنسانية”، ويتابع قائلًا “لا يوجد فرق بين أماكن صلاة وعبادة المسيحيين والمسلمين والدروز أو أماكن اليهود، فنحن نصلي جميعًا لإله واحد”.
ولكن في القدس، عبادة إله واحد لا تمنع المتطرفين من ارتكاب أعمال عدائية، ويقول الشيخ كنعان تعليقًا على ذلك “البعض منهم (اليهود) يكرهون المسيحيين والمسلمين، إنهم يريدون لكل الفلسطينيين الرحيل من البلاد”.
بالنسبة للمدير الفلسطيني لمطعم بنت البلد، وهو مطعم صغير بالقرب من الباب الجديد في الحي المسيحي داخل البلدة القديمة في القدس، لا يشكل حادث الطابغة أي مفاجأة، حيث يقول “حصل هنا في القدس الشرقية حوادث مماثلة، فرهبان دير رقاد السيدة العذراء، الذين ينتمون مثل زملائهم الألمان في كنيسة الطابغة إلى البينديكتين، تم البصق في وجوههم، وتوجيه كلمات نابية بحقهم من قِبل المتطرفين اليهود، كما كتبوا أيضًا شعارات عدائية على جدران الدير”.
يخشى مدير المطعم أن هذه الحوادث قد تسبب رد فعل اقتصادي عنيف، “معظم السياح الذين يأتون إلى البلدة القديمة في القدس هم حجاج، أو على الأقل ملتزمون دينيًا، وهذه الحوادث ستبقيهم بعيدًا، وهذا ليس في صالح إسرائيل”، يقول مدير المطعم، ويشير لنا بعدها إن فكرة مغادرة البلاد لم تراوده مطلقًا، ويتابع “أنا مسيحي فلسطيني، أنا مثل السمكة التي تموت إذا خرجت من الماء، هذا هو وطني، وسأبقى هنا، لأنني خارج فلسطين سأموت حتمًا”.
المصدر: ميدل إيست أي