هل يعيد التاريخ نفسه؟ سؤال تفرضه الأحداث الحالية بشكل قوي؛ فإن كان التاريخ لا يعيد نفسه فيبدوا أن محركي الأحداث في مصر يحاولون استنساخه، فكل يمشي على خطى سلفه كما ينقل لنا المشهد، وإن كانت الصورة مازالت تحتاج لبعض الوضوح إلا أن الخطوات المرصودة تؤكد ذلك.
إسلاميو التسعينيات عنف وعنف مضاد ينتهي بمراجعات فكرية
تاريخ الجماعة الاسلامية لم يبدأ في التسعينيات بل بدأ منذ نشأتها في السبيعينيات من القرن الماضي، ولكن النقاط الساخنة والتحول الذي مرت به الجماعة بمكن أن يرصد خلال 7 سنوات بدأت عام 1990 وحتى عام 1997، حيث بدأت المواجهة الفعلية بين الجماعة ونظام مبارك آنذاك باغتيال المتحدث باسم الجماعة الدكتور علاء محيي الدين، فكان رد الجماعة هو اغتيال رئيس مجلس الشعب آنذاك الدكتور رفعت المحجوب، وشهد عام 1990 وحده 51 حالة تصادم بين الإسلاميين والأمن راح ضحيتها أكثر من 115 قتيلاً من الطرفين .
وتواصلت الأعمال المسلحة للجماعة لمدة 7 سنوات كان أبرزها مهاجمة البنوك بعبوات ناسفة، ومحاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا عام 1995، وأخيرًا عمليتهم الأشد والتي تزامنت مع إعلان قياداتها عن المراجعات الفكرية، وهي العملية التي أدت لمقتل 58 سائحًا أجنبيًا بمعبد حتشبسوت بالأقصر .
تعامل الدولة مع الجماعة الإسلامية كان من أشد ما يكون؛ فيشير عدد من المراقبين إلى أن مصطلح الدولة الأمنية انتعش وعلا صيته بالتحديد في تلك الفترة لممارسات قوات الأمن ضد الإسلاميين خاصة المنتسبين للجماعات الإسلامية، سواء بالقتل أو بالتعذيب، حيث وصل العدد الموثق للقتلى نتيجة التعذيب بعهد مبارك لـ167 حالةً، وبلغ عدد البلاغات المقدمة بعد الثورة ممن تعرضوا لتعذيب بدني بنفس الفترة لحوالي 900، بلاغ أغلب الضحايا كانوا من الإسلاميين بالإضافة لحالات الإخفاء القسري، والسجن لمدد كبيرة دون التقييد بالأحكام القضائية.
القمع الأمني لم يكن السبيل الوحيد لنظام مبارك للتخلص من تأثير الإسلاميين بشكل عام، والجماعة الإسلامية بشكل خاص بل اتجه نظام مبارك نحو المؤسسات الدينية للدولة، واحكم سيطرته عليها ليضمن توجيه الخطاب الديني بالشكل الذي لا يهدد نظامه.
التصالح والمراجعات الفكرية لدى الجماعات الإسلامية لم تبدأ إلا بعد سبع سنوات من المواجهة المباشرة للنظام، تلك المواجهة التي باءت بالفشل الذريع.
الجزائر والصندوق الأسود للعسكر
القارئ في سيناريو العشرية السوداء بالجزائر يدرك مدى التشابه بين الطريقين؛ ففي الجزائر اختار الإسلاميون اللجوء للصندوق رغم رفض قطاع كبير منهم له واعتباره خروج عن الشريعة لما رأوه من مساعٍ جادة للتغيير على الساحة الجزائرية، بالفعل اتجهت أغلب التيارات الإسلامية للانتخابات البلدية عام 1988 بالجزائر واستطاعت تحقيق تقدم كبير أهلها لتقدم مماثل عام 1990 بالمرحلة الأولى لانتخابات البرلمان، تقدم الإسلاميين لم يكن مناسب لقطاع كبير من جنرالات الجيش الموالين لفرنسا وأصحاب المصالح والنفوذ؛ مما أدى لحدوث انقلاب عسكري على الرئيس الشاذلي بن مدين وإلغاء نتيجة الانتخابات تمامًا.
لم يتوقف الأمر بمجرد الغاء نتيجة انتخابات البرلمان بل بدأت مرحلة تصفية الإسلاميين من قِبل جنرالات الجيش والرئيس محمد بو ضياف الذي تم تعيينه، وبالفعل تعرض الإسلاميون لحملة اعتقالات وقتل وإخفاء قسري واسعة وكبيرة جدًا، إلا أنها كانت المقدمة فحسب فعقب تولي “بوضياف” الحكم بستة أشهر قام حارسه الشخصي وهو ملازم بالقوات الخاصة الجزائرية الخاصة باغتياله.
أصابع الاتهام توجهت نحو المؤسسة العسكرية نفسها التي أتت بـ “بو ضياف” نظرًا لمحاولته إزاحة بعض قادتها من ساحة العمل وعمله على محاربة الفساد بشكل جدي، إلا أن المؤسسة العسكرية استغلت عملية الاغتيال في التصعيد أكثر ضد الإسلاميين، وبالفعل وصل التصعيد لذروته من خلال تصفيتهم بدلًا من اعتقالهم، وقتلهم بالرصاص الحي بالسجون كل ذلك دفع نحو إنشاء جيش جبهة الإنقاذ والذي أعلن أنه سيعمل على رد اعتداءات الجيش فحسب، موجهًا تحذيرًا لعامة الجيش بعدم التورط في جرائم الانقلاب العسكري.
تصاعدت الأحداث بعد ذلك منذ تأسيس جيش الجبهة وظهور حركات مسلحة في نفس الوقت خاصة حركة “الجيا” التي تدور حولها الكثير من الشبهات وكان دور تلك الحركة في تفكيك جيش الإنقاذ والقضاء على قياداته كبيرًا جدًا، بالإضافة لارتكاب المجازر ضد المدنيين ونسبتها للجبهة وأحيانًا بالتعاون مع الجيش الجزائري نفسه مثل ما حدث بمجزرة بن طلحة، فشهدت الفترة من عام 1997 إلى 1998 ما لا يقل عن 250 مجزرةً كان أشدها مذبحة غليزان حيث أُبيدت قرية كاملة وسقط فيها 517 قتيلاً وكل الجهات تتهم بعضها .
الدم المتواصل وعدم الوصول لحل جعل السلطات الجزائرية تقتنع بعدم إمكانية تحقق مسعاها بتصفية الإسلاميين وانتهجت طريق جديد؛ ففي عام 1997 قام الجنرال إسماعيل العماري بالذهاب لمقر المدني مزراقي ـ زعيم جيش الجبهة ـ بجبال الجزائر ليتفاوض معه بشأن حدوث صلح، وبالفعل نزل المزراق مع الآلاف من المقاتلين من الجبل بعد أن حصل على عفو شامل لكافة المجاهدين.
وفي عام 1999 حدث صلح من جانب واحد وهو جانب الدولة عقب فوز بوتفليقة بالانتخابات الرئاسية فأصدر قانون الوئام الوطني بعد أن استفتى عليه الجزائريين وهو ينص على العفو الشامل عن كل من لم يثبت تورطه بدماء بشرط تسليمه لسلاحه، وبالطبع من المستحيل معرفة من تورط في دماء ومن لم يتورط.
لم يتم محاسبة أي أحد على دماء أكثر من 200 ألف قتيل بالجزائر خلال فترة العشرية، لا المسؤولين ولا الجماعات الإسلامية التي تشكلت خلال فترة المواجهات، وعادت للحياة العامة عقب قانون الوئام الوطني وعلى الرغم من انتهاء فترة العشرية السوداء إلا أن آثارها مازالت مستمر.
الانقلاب بمصر على أعتاب العشرية السوداء
تتشابه الأحداث كثيرًا بين مصر والجزائر في بدايتها، ففي البلدين وافق الإسلاميون على اختلاف مرجعياتهم بقبول حكم الصندوق، واتبعوا خطوات الديمقراطية بعد أن كانوا يعتبرونها كفرًا، في مصر وصل الأمر للرئاسة فتخطى مرحلة البرلمان التي وقفت عندها الجزائر، ولكن المواجهة الحتمية التي تفرضها المصالح قبل كل شيء كانت نصيب مصر أيضًا كما كانت نصيب الجزائر قبلها.
سيناريوهات متشابهة، مظاهرات واعتصامات واعتداءات أمنية وقتل وتعذيب وإخفاء قسري والقبض على القيادات، وفي مصر اعتقال أول رئيس مدني منتخب وأحكام سياسية وصلت للإعدام، وأخيرًا وليس آخرًا كما يبدو مقتل النائب العام وتوجيه الاتهامات من دون أي تحقيق لجماعة الإخوان المسلمين، بالطبع لا ننسى التنظيمات الإسلامية الأخرى خاصة تنظيم الدولة وظهوره بقوة في سيناء بالإضافة لما نُشر من عمليات عنف ضد الجهات الأمنية تنسب لجهات مجهولة تسمي نفسها العقاب الثوري أو حركة إعدام أو تحت الرماد وغيرها والتي لا تقارن بتنظيم الدولة ولكنها تُنبئ بمرحلة جديدة من الصراع إن صدق ما تنشره من أعمال.
يبدو أن المرحلة الجديدة من التعامل الأمني في مصر مع جماعة الإخوان خاصة والإسلاميين بشكل عام قد بدأت بمقتل النائب العام؛ فكان أول رد فعل للنظام المصري هو تصفية 13 قيادة إخوانية في شقة بمنطقة 6 أكتوبر بدلًا من اعتقالهم، ورغم اتهامات القوات الأمنية لهم بمهاجمتها وإطلاق النيران عليها إلا أنه توافرت الكثير من الأدلة ترد على اتهامات قوات الأمن وتثبت أن ما حدث تصفية متعمدة.
وتعليقًا على المقارنة بين الجماعة الإسلامية وما واجهته في تسعينيات القرن الماضي أكد عبد الرحمن يوسف ـ الصحفي المتخصص بشؤون الجماعات الإسلامية ـ في تصريح خاص وجود اختلافات كبيرة؛ فالخصم هنا هي جماعة الإخوان المسلمين والتي تختلف بنيتها وطريقة عملها عن الجماعات الإسلامية التي رفعت السلاح في وجه الدولة مثل جماعة الجهاد والجماعة الإسلامية مضيفًا: “الإخوان في الأصل جماعة سلمية وسياسية ودعوية وليست جماعة جهادية ولا عنيفة، حتى رؤيتها للشريعة وتطبيقها مختلف”.
وأضاف يوسف أن جماعة الإخوان جزء في مشاكلها مع الدولة فيه بُعد يتعلق بالديمقراطية، بعكس جماعات التسعينيات التي لم تحمل هذا المفهوم على الإطلاق، مشيرَا إلى أن هذا الأمر أدى لوجود تعاطف دولي نسبي معهم، بمعنى أن سويسرا مثلاً رفضت اعتبارهم جماعة إرهابية ودول أخرى غيرها، ومازال قادتها قادرين على التنقل بعكس جماعات التسعينيات.
واعتبر يوسف أن ما سبق يُصعب مهمة النظام المصري في القضاء على الإخوان، مضيفًا إنه حتى عنف شباب الإخوان له سقف، ومن يرفض هذا السقف إما “ذئاب منفردة أو ينتهي به الأمر بالتوجه نحو جماعة عنف بشكل فردي”على حد وصفه، مؤكدًا أن كل ما سبق يجعل تكرار تجربة التسعينيات مع الإخوان صعبة.
وأشار إلى أن بقية الإسلاميين في مصر ليس لهم دور فعلي على الساحة، وأن ما يحدث بسيناء له وضع خاص لارتباطهم بإرهاب دولي لا علاقة له بما يحدث داخل مصر، مضيفًا أنهم يكفرون الإخوان أيضًا كما يكفرون السلطات الحاكمة.
أما المقارنة مع أحداث الجزائر في فترة العشرية السوداء فيرى عبد الرحمن أن نقطة التشابه الوحيد هو الانقلاب على الديمقراطية، مشيرًا لاختلافات بين الحالتين أبرزها وفقًا له: “أن القادة السياسيين في الجزائر لديهم دعم مباشر من فرنسا بالإضافة لوجود قوى لديها استعداد لرفع السلاح في وجه الدولة بشكل تنظيمي”.
وأكد يوسف أن الحالة الوحيدة التي يمكن فيها القول إننا متجهون نحو سيناريو الجزائر هي الحالة التي يقرر فيها الإخوان رفع السلاح بشكل ممنهج أمام شيطنة الدولة لهم ووجود عنف مجتمعي من الناس يهدد حياتهم الخاصة.
وأضاف: “الإخوان لن ترفع السلاح بشكل ممنهج وتنظيمي في وجه الدولة، لكن لو الدولة غامرت وتركت الفرصة للمواطنين برفع السلاح بشكل شبه ممنهج ضد الإخوان، وقرر الإخوان الدفاع عن نفسهم والرد، هنا سيتحول الأمر لعشرية سوداء”.
وقال يوسف: “حتى الآن الجماعة تقف في طريق المنتصف مع المواجهة مع الدولة؛ بمعنى أنه حدثت بالفعل تحولات نحو استخدام القوة والعنف لكنه في مستويات تتعلق ببعض المنشآت والطرق، لكنه حذر أمام الأفراد وحذر في تحوله إلى شكل ممنهج، بمعنى أن الإخوان تشهد تحول نحو المواجهة لكنه مازال محدودًا، ولا يقارن بحجم العنف الممارس ضدهم من الدولة”.