“عظمه من حديد”، مقولة يقولها الناس حينما يشاهدون شخصًا قويًا، لكن ما شاهدته خلال لقائي بها أنها “فتاة بلاتينية” بعد أن كانت بصحة جيدة، وعظامها قوية؛ ولكن بلمح البصر تحولت أسيرة لجسد بلاتيني، زهرة تفتحت على عامها التاسع عشر لتجد نفسها هدفًا مباحًا لقوات الاحتلال الإسرائيلي ليتحول جسدها الناعم إلى وجع على مدار الحياة.
مها سليمان والتي أُصيبت خلال العدوان الأخير على قطاع غزة عام 2014 بعد قصف منزلهم في مدينة دير البلح وسط غزة، واستشهاد سبعة أفراد من عائلتها مما جعلها يتيمة الأبوين وفقدانها لأشقائها وشقيقاتها تقول: “لا أذكر شيء سوى أننا كنا نجلس معًا، وبعدها أفقت من غيبوبتي وأنا في المستشفى، حينها وجدت “الجبص” على رقبتي وكلتا يدي وقدمي”.
وجعٌ وفقدٌ
فور إفاقتها من الغيبوبة التي أصابتها أدركت وجودها على أحد الأسرة في مستشفى الشفاء بمدينة غزة خلال الحرب الأخيرة، فكانت لا تستطيع سوى أن تنطق بـ “الحمد لله”، ولم تكن تعرف استشهاد أفراد عائلتها إلا بعد أسبوع حيث فقدتهم من خلال عدم تواجدهم بجانبها، كما تروي: “استقبلت الخبر بالصبر والاحتساب لله على كل ما حل بنا”.
بعد انتهاء الحرب لم يكن أمام المصادر الطبية سوى تحويلها إلى المشافي التركية لاستكمال علاجها بعد أن أجري لها أربع عمليات جراحية في مستشفى الشفاء بمدينة غزة خلال العدوان الأخير، تسرد تفاصيل السفر قائلةً: “غادرنا أنا وخالتي قطاع غزة عبر معبر إيرز، وفور وصولنا، فرقنا الاحتلال الإسرائيلي عن بعضنا بحجة أن المرافق من طريق والجريح من طريق آخر”.
بتنهيدة وآهات الوجع أضافت: “بقيت وحدي لا أستطيع التحرك، ولا أستطيع أن أحرك جزء من جسدي لا يمينًا ولا يسارًا، أربع ساعات وأنا في ساحة مطار بن غريون ولا أحد يبحث عني، سوى أنني أسمع صوت أحد الرجال الذي يوزع الطعام على الجرحى، رغم ذلك لم أستطع أن أطلب شيء”.
لا أعرف أحدًا
شعور غريب أصاب مها حينما ترى أمامها من قتل عائلتها ولا تسطيع أن تعمل شيء كردة فعل منها إلا أنين وجعها هو الذي يواسيها كما تضيف، زادت: “بعد أربع ساعات وأنا ملقية على الأرض في مطار بن غريون، وجدوني الأتراك وحملوني في طائرة عسكرية حربية، حينها وأنا أصرخ “ماء.. ماء “، استطاع أحد المرافقين لجريح أن يضع على شفتي قليل من الماء لأروي ظمأ يوم كامل”.
ضحكت مها حينما تذكرت وصولها لتركيا على أصوات العرب الذين استقبلوها في التكبير والتهليل حيث اعتبرت نفسها شهيدة، تكُمل: “على الفور نقلوني للمستشفى الدولي ولم يكن معي أي تقرير طبي لأن خالتي التي ترافقني لا أعلم عنها شيء بعد إبعاد الاحتلال لها على المعبر”.
لم تكن مها تعرف أحد سوى أم محمد الجريحة التي كان سريرها مقابلها في غرفة مستشفى الشفاء بغزة؛ ليطمئن قلبها، ناديت عليها بصوتي المتقطع الذي كاد أن يفهم ولكن الأخرى لم تستطع فعل شيء سوى أن تبتسم لها وترسل لها مرافقها ليروي عطشها الشديد كما تقول.
تواصل سرد تفاصيلها: “حضرت الممرضة التركية لي وطلبت منها أي شخص يتحدث اللغة العربية لكي يفهم ما أريد بعد أن حدثتها باللغة الإنجليزية، جاء أحد الشباب الفلسطينيين المتطوعين في المستشفيات التركية، ليعرف ماذا أريد بصحبة الدكتور الفلسطيني، فلبى طلبي على الفور بإحضار الماء”.
الدكتور هو أبي
لافتةً أنه تم نقلها إلى المستشفى الجامعي لأن وضعها الصحي كان سيء للغاية، قالت: “قدر الله أن أجد أمامي الدكتور الفلسطيني أسامة الرقب حيث أجرى لي صور أشعة وعمليات جراحية، بعدها بيومين جاءت خالتي التي أبعدت عني، واطمأن قلبي، أراد الأطباء نقلي إلى مشافٍ أخرى إلا أن والدي الدكتور أسامة رفض ذلك وقال بأنني مثل ابنته وسيشرف على علاجي”.
ممنوع التحرك
ليس غريب أن تعيش مها فترة طويلة بدون أن ترى من يجلس بجانبها أو لا يستطيع أن يكون أعلى منها، ولكن أن تعيش هي وجريحة في غرفة واحدة لمدة ثلاث أسابيع فقط عن طريق الصوت، يواسون بعضهن البعض بحديثهن ويكابرن على جراحهن، لأن مها كتب لها أن تكون إصابتها في العامود الفقري؛ مما جعلها لا تتحرك وبعد عدة عمليات جراحية؛ استطاعت مها الجلوس فقط.
تضيف مها رغم صعوبة وضعي الصحي ونفسيتي المرهقة إلا أنني لا أنكر جميل أهلي الأحبة الأتراك، الذين وقفوا بجانبي ليلًا ونهارًا ويعاملوني مثل أختهم، توضح قائلة: “في آخر عملية جراحية لي كان كل من عرفني على باب غرفة العمليات يبكي ويدعو لي بنجاح العملية، والحمد لله حقق لهم ما أرادوا والآن عدت وأنا أسير على “الوكر” والكرسي المتحرك”.
يذكر أن مها منذ تاريخ 30 أغسطس 2014 وهي ملقاة على ظهرها لا تستطيع التحرك، حتى منتصف شهر نوفمبر من نفس العام استطاعت الجلوس دون المشي.
تخصص عمليات
كل من يشاهد جسد مها الذي يتحرك بصعوبة يصاب بدهشة ولكن روحها ثابته وعالية، تصف نفسها أنها أصبحت تخصص عمليات بعد أن قام الأطباء بإجراء أربع عمليات في تركيا وستة عمليات في غزة، قدمها اليسرى كان لها النصيب الأكبر في العمليات لتأخذ النصف من مجموع العمليات التي أُجريت لها، يتلوها قدمها اليمنى وبطنها ويديها ورقبتها، وصبغ طابع العمليات البلاتين.
تستطرد مها أن رئيس وزراء تركيا أحمد أوغلو عرض عليها الجنسية التركية وأن تبقى تتلقى العلاج في مستشفياتهم، لكنها أصرت على التمسك بهويتها الفلسطينية، وتعود إلى غزة بكامل عزتها، فهي تسكن في بيت الشهداء وتعتز بأهلها الذين عطروا بدمائهم أرض فلسطين.
يذكر أن عدد النساء اللواتي أُصبن خلال العدوان الأخير على قطاع غزة بلغ نحو 2112 إصابةً تنوعت ما بين طفيفة ومتوسطة وخطيرة.
وتبقى أمنيات مها بعد الإصابة أن تنهي دراستها في جامعة الأقصى تخصص لغة عربية، وتدرس بعدها الماجستير في نفس التخصص لتصبح أستاذة تخدم دينها ووطنها وتدافع عن أرضها بكل ما تملك، وتتخلص من الأسر البلاتيني، لتتحرر منه طيلة عمرها.