خلصنا في الجزء الأول من هذا المقال إلى أن المعطى التكفيري/ الجهادي لم يكن صنيعة لثورة الربيع ولا أحد إرهاصاتها، وإنما سبقها بسنوات كنتيجة لجملة من الأسباب لعل أهمها سياسة الإرهاب والتضييق الأمني الممتزجة بحالة الفراغ على مستوى التربية الدينية والروحية في مجتمع دولة بن علي.
الثورة بما هي مجمل الأفعال والأحداث التي تقود إلى تغييرات عميقة في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي لأمة أو مجموعة بشرية ما، وبشكل شامل وعميق وعلى المدى الطويل، ينتج عنها تغيير في بنية التفكير الاجتماعي للشعب الثائر وفي إعادة توزيع الثروات والسلطات السياسية، هي عبارة عن تغيير شامل وجذري في توزيع مصادر القوة وعمليات الإنتاج في المجتمع.
وانطلاقًا من هذا الوعي لدى مختلف الحساسيات الفكرية في البلاد، مثلت الثورة في فترة ما بعد إسقاط رأس النظام، حدثًا مُحرّضًا على التدافع و”التحارب” المحموم بين مختلف المشاريع الفكرية والتيارات السياسية بهدف التموقع كأفضل ما يكون في خارطة القوة التي بصدد التشكل ولضمان حضور داخل النظام الجديد الذي سيملأ الفراغ الذي سببه انهيار النظام القديم (وإن كان الحديث عن انهياره وقتها غير دقيق وثبُت ما يدحضه تباعًا).
ولم يكن التيار الجهادي/ التكفيري في منأى عن هذه “المعركة”، فقد انطلق مباشرة في بلورة مشروع بسيط وفعّال في الآن ذاته بناء على وعي وحسن قراءة للمسار الثوري ولشعارات الثورة التي انقسمت إلى ملفين كبيرين: الأول يتعلق بمعيشة الناس والعدالة الاجتماعية والثاني يتعلق برفض نظام الحكم المُنتفض عليه.
بدون عُقد، انطلق هذا التيار في تقديم مشروع يجيب على تساؤلات الثورة من خلال التركيز على العمل الاجتماعي واقتحام مساحات شعبية هامة عبر هذا الباب، فبالإضافة إلى المعونات، أصبح الانتساب لهذا الفكر باب رزق من خلال إدماجهم فيما يشبه السوق الموازية “المُلتحية” التي تأسست في ظرف وجيز (خلق مجتمع داخل المجتمع، فالتاجر ضامن لحرفائه المنتمين لنفس تياره) وهو ما يسر استقطاب العديد من العاطلين عن العمل وحتى من كانوا بعيدين كل البعد عن الالتزام الديني.
الإجابة الثانية عن تساؤلات الثورة كانت من خلال تقديم نظام سياسي كبديل عن النظام الذي حكم تونس ما بعد الاستقلال وهو “الحكم الإسلامي” و”تطبيق الشريعة” وما تعلق بهما من خطابات وعناوين بديلة، أتى في سياق كانت فيه فئة هامة من الشعب التونسي متعطشة للتصالح مع دينها وهويتها وهو الأمر الذي كان مُكلفًا جدًا في عهد الديكتاتورية – التصالح مع الدين والهوية – وكان هذا الطرح بمثابة التلويح بسراب من الماء لرجل أُهيم في إحدى الصحاري.
كل هذا تشكل في ظرف وجيز وفي مرحلة كانت فيها الدولة تعاني من ارتجاجات الثورة الطبيعية، وخلال الفترة الزمنية التي احتاجتها الدولة للوقوف من جديد، كان هذا التيار قد اخترق مناطق شعبية ليست بالهينة وبات من الموضوعي وقتها الحديث عن بداية تكون حاضنة شعبية لهذا الفكر.
ومما ارتكز عليه معارضو الحكومة التي قادتها حركة النهضة في تلك الفترة هو اتهامها بأنها لم تسارع لشن الحرب على هذا التيار مع بداية وضوح خطابه التكفيري، حيث مضت ابتداءً في دعوة تنظيم أنصار الشريعة (العنوان الذي تم اختياره من طرف هذا التيار) للتنظم وفق ما يضبطه القانون التونسي، أي من خلال طلب تأشيرة للنشاط القانوني ثم التضييق التدريجي على أنشطته المخالفة للقانون كالقيام بأنشطة دعوية دون أخذ ترخيص من السلطات المحلية؛ ما عجل ببداية المُشاحنات مع قوات الأمن وبإبراز الوجه الكريه لهذا التنظيم الذي أعاد أكثر من مرة أن تونس أرض دعوة وليست أرض جهاد.
وعلى عكس ما ذهب إليه من عارضوا حكومة الترويكا من أجل المعارضة، يُجمع أغلب الخبراء في الجماعات الجهادية أن تبني السلطة لسياسة المرحلية وعدم المضي في أسلوب الصد المباشر الخشن ساهم في منع تشكل حاضنة شعبية لجهاديي تونس من خلال فتح المجال لهم للنشاط القانوني الذي كان هم من رفضوه.
كما أن الحكومة كانت حريصة على عدم الارتداد على قيم الثورة والعودة لسياسات العقاب الجماعية والإقصاء الفئوي، واعتبرت أن لهؤلاء الحق في التواجد ماداموا ينطقون باللسان فكرًا وما داموا لا يتبنون، كما كانوا يعلنون، العنف المادي بأنواعه، تبني هذه السياسة حرم التيار الجهادي من لعب دور الضحية الذي يتقنه بشدة، والذي يبني عبره حالة من المظلومية تستدر عطف الناس فيكون سندًا له في مقاومة الدولة متى قرر المواجهة.
ويوم توفرت معطيات كافية حول وجود نسخة غير معلنة لهذا التنظيم تسعى للتسلح وتحوي في طياتها فكرًا عدائيًا قتاليًا، لم يتردد رئيس الحكومة وقتها، علي لعريض، في إعلانه تنظيمًا محظورًا ومحاصرته، وساعدت مرحلية التعاطي معه وعقلانيته في انفضاض من كانوا حوله؛ ما دفعه للالتحاق بالجبال.
إن من يرقصون على جثث الشهداء كل مرة ليسجلوا بعض النقاط على خصمهم السياسي بطريقة لا أخلاقية من خلال اتهامه بأنه تارة متواطئ مع الإرهابيين وتارة أخرى أنه أساء التعامل معهم، في تنويع بين المسؤولية السياسية والمسؤولية الجنائية حسب الحاجة مع كل فاجعة تصيب البلاد، يتناسون أن من يتهمونه كان أكبر المتضررين من خلال سقوط حكومتين كان يقودهما (حكومة حمادي الجبالي ثم حكومة علي لعريض) وأن له فضل فشل هؤلاء المارقين عن الدولة في إيجاد حاضنة شعبية واسعة كما هو الحال في باقي الدول التي مرت بتجارب مشابهة.
لا شك أن الاستثمار في الدماء بات هواية لبعض الساسة ومهنة للبعض الآخر، وهو مُشترك لدى أغلب الدول العربية التي لا تُحسن إخراج بعض الملفات الكبرى من دائرة التجاذبات السياسية.
ورغم أن تحميل المسؤوليات مهم لتجاوز الأخطاء ولتعديل البوصلات، إلا أنه يحتاج موضوعية عادة ما تغيب عن بعض العقول التي توقف بها قطار الزمن في سبعينات وثمانينات مضت، والتي لا يمكن إلا أن تجتر الخصومات الأيديولوجية التي عفا عنها الزمن، وقد يكون من بين ما يستحق بالفعل بحثًا حقيقيًا متجردًا، مدى اضطلاع حركة النهضة المُؤهلة أكثر من غيرها لمجابهة التيار الفكري الهدام بالحجة والدليل بمهمتها الاجتماعية الدعوية، وطرح السؤال حول انعكاس الاهتمام الكلي بالسياسة وما لف لفها والابتعاد عن المساجد كمنصات عمل (طوعًا أو قصرًا هذا موضوع آخر) في فترة كان الفراغ فيها بينًا، والتساؤل حول ما يعرف لدى بعض النقاد باحتكار حزب سياسي للمدرسة الوسطية وهو الذي اختار بوضوح أن يمضي في العمل السياسي، فإن كان الوزر السياسي مجرد تعاطي سياسوي مع الملف، قد تكون المسؤولية الاجتماعية مما يجب البحث فيه بتؤدة.