من أدنى الأرض في البحر الميّت أو بحيرة لوط كما تُسمى أحيانًا، حتى جنوب سهول بيسان، وعلى طول 120 كيلومترًا تمتد الأغوار الفلسطينية التي تُشكل أكثر من رُبع أراضي الضفة الغربية، إلا أنها بقيت مُهمشة لفترة طويلة ولم يلتفت إليها أحد كما اليهود الذين تسابقوا على نهب أراضيها وخيراتها في أوسلو عندما وافق المُفاوض الفلسطيني أن تكون 91% من أراضي الأغوار مناطق “ج” مما يعني أنها تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة ولا يستطيع الفلسطينون بناء منازل أو إقامة بُنية تحتيه إلا بموافقة سلطات الاحتلال.
ومما تسرب إلى غُرف الأخبار أن نتنياهو طلب في إحدى مُفاوضات السلام أن يستأجر الغور 40 عامًا، كيف لا يفعل والأرباح الإسرائيلية الكبيرة في غور الأردن وحده تعتبر أعلى من مجمل الصادرات الفلسطينية؛ فقد أعلن مجلس المستوطنات أن أرباحها من مستوطنات غور الأردن وحدها تبلغ نحو 650 مليون دولار، فالأغوار تتميز بمناخ وتربة مميزة جعلت منها سلّة غذاء فلسطين على مدار التاريخ، بل إن أول مُدن التاريخ البشري أُقيمت هناك في أريحا التي سُنسلط الضوء عليها وعلى خيراتها في تقريرنا هذا، كما سنعرض مُحاولات فلسطينية مميزة للصمود في بلدة عقربا، وأخيرًا سنعرض نموذج شبابي فريد لمقاومة الاحتلال بالسياحة والمعلومة المميزة.
من الموز الريحاوي إلى “المجهول”
لا تشتهر فلسطين ببرتقال يافا ولا عنب الخليل أو بطيخ جنين فحسب، فالموز الريحاوي الذي يُزرع في مدينة أريحا يُعتبر من أجود أنوع الموز، بل إن البائع في فلسطين إذا ما أراد بيع موزه، يُنادي في السوق “ريحاوي يا موز” إلا أن هذا الموز مثله مثل غيره من خيرات الأغوار، آخذ في الانقراض بسبب الاحتلال وعمليات مُصادرة الأراضي والسيطرة على مصادر المياه، بل إن بعض التقارير تُشير إلى أن عدد الأراضي المزروعة بالموز وصلت إلى 500 دونم بعد أن كانت قبل عملية اوسلو حوالي 7000 دُونم.
عملية الانقراض هذه لا بُد أن تُذكرنا ببرتقال يافا الذي لم يبق منه إلا الاسم Jaffa، اليوم لم يعد برتقال في يافا إلا ما يوجد في الحوانيت وجُلّه من المستوطنات الإسرائيلية، يُزرع ويُصدر إلى العالم ويُطبع عليه اسم يافا دُون أن يلتفت أحد أصلاً أن يافا لم تعد يافا وأنها أصبحت مُجرد حارة من حارات تل أبيب، وتل أبيب ليست وحدها التي سلبت يافا هيبتها، فمستوطنات غور الأردن سلبت أريحا هيبتها ومصدر حياتها، فلو سألت اليوم عن ملك التُمور، سيُقال لك عليك بتمر المجهول، وهو من أجود أنواع التمور فعلاً كما يؤكد الخبراء وأسعاره باهظة ويزرع اليوم في المستوطنات الإسرائلية ويوزع في أنحاء العالم تحت مسميات جذّابة كتمور الأراضي المقدسة وتمور غور الأردن، ولعله من الصعب على القارئ أن يُدرك حقيقة بركات هذه الأرض، إلا إذا علم أن قيمة صادرات التمور في إسرائيل في عام 2012 بلغ، بحسب صحيفة ذا ماركر الاقتصادية، حوالي 70 مليون دولار، نعم 70 مليون دولار.
عقربا .. إبداع في الصمود
رغم كل المحاولات للسيطرة على أراضي الأغوار بحجة أن الأراضي مُغلقة للتدريبات العسكرية تمهيدًا لنهبها، إلا أن لا شيء يقف أمام غطرسة الاحتلال مثل صمود أهالي الأغوار أنفسهم، ففي جولتنا ببلدة عقربا التقينا بالمهندس أيمن فوزي رئيس بلدية عقربا، وصاحب شركة ساتكو للخدمات الهندسية الكهربائية، وهو رجل طموح ومُحب لبلده، وكمهندس ورجل أعمال ناجح فقد أتحفنا بثلّة من المشاريع التي يجري العمل عليه من أجل دعم صمود الأهالي في الأغوار وكان من بين هذه المشاريع مشروع تعزيز صناعة الأجبان في عقربا، والتي تعتبر من مصادر الرزق المعتمدة لدى الأهالي، ورغم الكميات الضخمة التي تنتجها عقربا وحدها من الأجبان للأسوق المحلية إلا أن المهندس يطمح أن تصل أجبان عقربا إلى العالم من خلال تدشين بناء مصانع للأجبان وتسجيل أجبان عقربا كماركة عالمية بعد نجاحها في السوق المحلي.
وعلى صعيد آخر، يتم العمل حاليًا على بناء محطة لتوليد الكهرباء بالطاقة الشمسية في منطقة يانون، وهي لا تهدف إلى تزويد أهل يانون والمنطقة بالكهرباء فحسب، بل إنه وبحسب الخطة المعدة يُفترض أن تجني الأرباح التي من شأنها أن تعود بالكثير من الفوائد على الاقتصاد المحلي تعزيز صمود الأهل في المنطقة وفي يانون خاصة، وهي من القرى الواقعة ضمن أراضي “ج”، أي أنها تقع تحت السيادة الإسرائيلية الكاملة، وقد تمت مصادرة حوالي 80% من أراضيها بالإضافة إلى 10% أخرى يُسمح الوصول إليها بموجب تصريح خاص، وتبقى الـ 10% الأخيرة التي يتحرك فيها أهلها.
حمزة العقرباوي .. المقاومة بالسياحة
في الأغوار النابلسية ومن وحي آهات الاحتلال والشعور بضياع الوطن بزغ نجم الشاب حمزة العقرباوي، وهو شاب في نهاية العشريات، قصد الجامعة إلا أنه لم يندمج مع أهلها ليعكف في المكتبات أكثر مما جلس في قاعات المُحاضرات، لينطلق في رحلة استكشاف لوطنه الذي يضيع أمام عينيه، سافر من بقعة إلى بقعة، بحث في الكُتب والموسوعات، دوّن وكتب وها هو اليوم يُحضر لواحدة من أكبر الموسوعات المتخصصة عن الأغوار، هذا غير الكُتب التي يعكف عليها وقد نشر كتابًا بعنوان “إطلالة المنبر”، وله كُتب تنتظر النور مثل كتاب “زوايا الأولياء ومقاماتهم في عقرباء” وكتاب “سرية عقربا في جيش الإنقاذ”، هذا غير مساهماته الجليلة التي يُقدمها للباحثين من طلبة الجامعات والدراسات العُليا بشكل مجاني، وليس هذا فحسب، فإلى جانب تبحّره في تاريخ الأغوار وإيمانه بسلاح المعلومة في مُقاومة الاستيطان وعنجهية الاحتلال فإن حمزة يقوم بالتعاون مع أصدقائه باستقبال الشباب والمجموعات السياحية المُهتمة وطلبة الجامعات مُنذ عام 2009 حتى يومنا هذا ويأخذهم في رحلات إلى مُختلف مناطق الأغوار لإطلاعهم على جمال هذه البقعة من بلاد فلسطين؛ وبالتالي فهم حقيقة أطماع إسرائيل فيها.
المُثير في قصة حمزة أنه لم يرضخ لضغوط من حوله في اكتساب لقب جامعي وقرر أن يُتابع شغفه الذي ورثه عن أجداده على طريقته الخاصة، فقد أخبرنا أن والد جده كان يُلقب بالمُخ وأنه تفرغ في آخر 20 سنة في حياته للعبادة والقراءة ولم يمارس أي عمل في الأرض، ومن يعرف حمزة وشارك معه في جولة عبر الأغوار سيُدرك حقًا معنى العلم عن حُب وقيمة العلم في تعريف الشباب الفلسطيني والعربي ببلادهم ودورها في مُقاومة الاحتلال.