يؤخذ صلح وستفاليا في 1648، الذي وضع نهاية لحرب الثلاثين عامًا في القارة الأوروبية، وأسس لمفهوم الحدود والسيادة، باعتباره اللحظة الأولى لولادة الدولة الحديثة، وهذا صحيح جزئيًا فقط، فقد كان لا بد من توفر عدد آخر من الشروط الموضوعية من أجل أن تنضج مؤسسة الدولة وتصبح بالقوة والفعالية التي ستعرف بها، كان لا بد، مثلًا، من توفر تقدم ملموس في وسائل الاتصال، في الحركة، وفي تقنية وفعالية أدوات البطش التي تمتلكها الدولة مقارنة بما يمكن لفئات المجتمع الأخرى أن تقتنيه أو تصنعه وتحتفظ به.
بدون قوة عسكرية قادرة على إخضاع أو احتواء أو منع أية محاولات للتمرد على مؤسسة الدولة؛ وبدون وسائل نقل وحركة فعالة، تسمح للمركز بمراقبة كافة أنحاء البلاد، ونشر أجهزة الأمن والجيش في الوقت المناسب والمكان المناسب، لمواجهة التحديات؛ وبدون كفاءة عالية في جمع الضرائب وتوفير الموارد الضرورية لعمل دوائر مؤسسة الدولة المختلفة؛ وبدون وسائل اتصال كفيلة بإيصال رسالة الدولة وخطابها لفئات المجتمع المختلفة، لم يكن لمؤسسة الدولة الحديثة أن تتجلى بالصورة التي نعرفها بها، وليس حتى القرن التاسع عشر، إن توفرت هذه الشروط وأخذت الدولة في التعالي على المجتمع وتملك الأدوات الكافية للسيطرة والتحكم.
ثمة عدد من السمات الضرورية التي تسم الدولة الحديثة، وتميزها بصورة كبيرة عن سابقتها التقليدية، أهمها أنها مؤسسة ذات طبيعة مركزية، مضت منذ بروزها في اتجاه واحد: مركزة القوة والسيطرة؛ وأنها تحمل في رحمها قدرة ذاتية على إعادة توليد ذاتها، سواء على مستوى الأدوات أو القيم أو الكادر البشري، مهما بذلت محاولات من خصوم الدولة لإضعاف مركزيتها ومقدرات السيطرة والهيمنة التي تحتفظ بها، فإن الدولة ترجع من جديد، في ظل ظروف مختلفة ومواتية، لتعزيز سلطاتها المركزية، وبناء طبقة الحكم البشرية التي تقوم بحراسة مقدراتها واستمرارها، كل الدول، ديمقراطية كانت أو شمولية، ليبرالية كانت أو مستبدة، تعمل على حماية سلطاتها المركزية وتوسعها وتأبيدها، ولأن الدولة الحديثة أُقيمت منذ البداية على أساس أنها هي مصدر الشرعية، وعلى رفض مصادر الشرعية الأخرى، فإن التقنين هو أدة الدولة الرئيسية في حماية سلطاتها وتعزيزها، ولكن ثمة فوارق هامة بين تجليات الدولة المختلفة.
في الدولة الديمقراطية، أو تلك التي تسير نحو بناء نظام ديمقراطي، ثمة مساحة رمادية تفصل بين مجال الدولة ومجال المجتمع، تتسع أو تضيق طبقًا لتوازنات متحركة دائمًا بين مؤسسة الدولة وقوى المجتمع، في هذه المساحة الرمادية، تنشط القوى المدنية، الهيئات الخيرية، الصحافة والإعلام المستقبل، مراكز القوة الاجتماعية التقليدية المتبقية من عائلات كبيرة وقبائل وشيوخ عشائر، رجال دين نشطون ومراكز دينية، إضافة إلى قادة الرأي العام في المجالات المختلفة، والأحزاب السياسية، هذه المساحة الرمادية هي التي تعمل على عقلنة مؤسسة الدولة ومنع تجبرها، وهي ميدان العملية الديمقراطية، التي لا تقتصر على تبادل السلطة وحسب، بل وتسمح لقوى المجتمع أن تمارس نوعًا من الضغط المستمر، في المواسم الانتخابية وغير هذه المواسم، للتأثير على مسار الدولة، على السياسات التي تتبناها، وعلى طبيعة القوانين التي تصدر عنها.
في الدولة الشمولية أو المستبدة، أو تلك التي تنزع نحو الشمولية والاستبداد، تختفي هذه المساحة كلية، أو تمضي باتجاه واحد نحو التقلص، ومن ثم الاختفاء، وتختفي معها القوى التي تعتبر هذه المساحة مكانها الطبيعي، أو تفقد هذه القوى تأثيرها ومعنى وجودها، لا يعود للأحزاب السياسية من دور، أو تتحول إلى ملحق لمؤسسة الدولة، تمنع تنظيمات المجتمع المدني، أو يتم إخضاعها لسلطة الدولة ودوائرها الأمنية، لا يسمح لإعلام بالعمل إلا إعلام الدولة، وتحاصر مراكز القوة التقليدية والدينية، أو يتم إلحاقها بدوائر الدولة الأمنية أو السياسية – الاجتماعية، بكلمة أخرى، تفلت الدولة من عقالها، وتتصرف بدون أي مسؤولية تجاه المجتمع وقواه المفترضة؛ وتتحول إلى مؤسسة متغولة، تقنن كما تشاء، تبطش كلما وجدت حاجة للبطش، تسفك الدمار بلا حساب عند شعورها بأدنى درجات الخطر، وتحتكر مقدرات البلاد غنيمة لطبقتها الحاكمة، في الدولة الشمولية أو المستبدة، أو تلك التي تنزع للاستبداد، لا يعد ثمة فارق بين مؤسسة الدولة ونظام الحكم، لأن هذه الفارق هو أصلًا نتاج المساحة الرمادية بين مجالي الدولة والمجتمع؛ وتتصرف الطبقة الحاكمة كأنها تملك الدولة بأكملها، بينما تتصرف مؤسسة الدولة في تماه كامل مع الطبقة الحاكمة.
في مواجهة الدولة الشمولية أو المستبدة، أو تلك التي تنزع للشمولية والاستبداد، ليس هناك سوى خيارين، لا ثالث لهما: إما الخضوع والقبول بعلاقة الاستعباد بين الدولة وطبقتها الحاكمة، من جهة، وعموم الشعب، من جهة أخرى، أو المقاومة، الذي يتصور أن بالإمكان إيجاد حل وسطي مع هكذا دولة متغولة واهم، هذه الدولة ليس لها حلفاء ولا شركاء متساوون ولا أصدقاء أو نصف أصدقاء، ولا تقبل بأقل من الخضوع والاستسلام الكاملين، ولكن ذلك لا يعني أن خيار المقاومة سهل أو يسير، دولة تقنن كما تريد، وتقتل وتبطش وتعتقل وتصادر وتحرم كما تريد، وبدون أي شعور بالمسؤولية تجاه شعبها؛ دولة تحتكر أعلى درجات العنف؛ تملك هيئات أمنية وقمعية عميقة الجذور؛ وترتكز إلى جهاز عسكري يرى أن مهمته الأولى حراسة الدولة وتأبيد سيطرتها وهيمنتها، وليس حماية الوطن وأمن حدوده، لن تكون مقاومتها سهلة أو يسيرة.
ما لا يقل أهمية أن الدولة المتغولة، مهما بلغت من فوقية في علاقتها بشعبها، ليست مؤسسة معلقة في الهواء، باحتكارها لأدوات القوة والثروة، تستخدم هذه الدولة فائض الغنيمة لخلق طبقات وفئات اجتماعية تابعة، يرتبط مصيرها بمصير الدولة، خلال فترة قصيرة من وجودها، يحيط بالدولة المتغولة، ويتماهى معها، أعداد متفاوتة من رجال الدين، الإعلاميين، رجال الأعمال، قادة رأي عام، بل وحتى قطاعات شعبية من أسر موظفي أجهزة الدولة وهيئاتها المختلفة، ليس هؤلاء حلفاء ولا أصدقاء ولا شركاء، بل قوى ذيلية تعرف حدودها، أو مجرد أدوات إضافية، فوق ـ دولتية، تلعب الدور المرسوم لها من قِبل منظومة القمع والهيمنة والاستغلال، وهذا ما يجعل النضال ضد هذه الدولة مريرًا، ومكلفًا، وطويل الأمد، لتقويض سلطة هذه الدولة والقضاء على تغولها واستباحتها لقيم الحرية والكرامة والعدل، لا يكفي إيقاع الهزيمة بأجهزة العنف والقمع التي تمتلكها، بل لا بد دائمًا من تقويض نفوذ وفعالية القوى الاجتماعية المرتبطة بها، كما أن إيقاع الهزيمة بالطبقة الحاكمة، والحفاظ على أجهزة الدولة التي وظفتها طويلًا لقهر الشعب وإخضاعه لا يكفي لتحقيق تغيير جوهري، فإن إيقاع الهزيمة بالطبقة الحاكمة وأجهزة الدولة، والإبقاء على القوى الاجتماعية المرتبطة بهما يفسح الطريق للردة والانقلاب على عملية التغيير.
بالرغم من صورتها التجريدية، فإن الدولة كائن حي، تتمتع بذاكرة وإحساس عميق بالمصلحة، وتحتفظ بقيم خاصة ومتوارثة، ولا يمكن لعملية التغيير أن تنجز، مهما طال الطريق وبلغت التضحيات، بدون إطاحة هذا الكائن، وولادة كائن جديد، يعلي قيمًا ويبني ذاكرة جديدتين، وهذا هو تحدي الحرية والعدل والكرامة الإنسانية الكبير.