تعتبر الفترة الحالية التي تلت الانقلاب العسكري في مصر مرحلة فاصلة في كثير من الجوانب وتحديدًا جانب الوعي لدى الحركات السياسية المختلفة بشتى اتجاهاتها؛ فالحكم العسكري الواضح غير المستتر بأي ورقة من أوراق الديموقراطية وتحديدًا بعد التخلص من رفاق 30 يونيو بعد فض رابعة وبعد أن أشركهم في فاتورة الدماء التي سالت والتي أبى العسكر أن يحملوها وحدهم، يعتبر مرحلة مختلفة عن كل سابقيها عدا حقبة الستينات والقضاء على الديموقراطية في 1954 وهي الحقبة التي لم يمر بها عموم الشباب وجيل الوسط، وإنما مر بها تحديدًا الأحزاب والحركات السياسية التقليدية من اليسار واليمين وفقط شيوخ هذه الحركات.
وكانت الخلفيات الأيدولوجية لكل فريق هي الحاكمة لكل التصورات والتحركات التي تلت 25 يناير 2011 حتى وإن كانت هذه التصورات كلاسيكية تراثية متأثرة بصراعات ومعارك ربما لم يعشها الجيل الحالي، وسيطرت هذه التصورات دون النظر لأبعاد الصراع مع الثورة المضادة، فكان الاصطفاف العلماني واضحًا من جهة، بينما كان الاصطفاف الإسلامي واضحًا من الجهة الأخرى طوال فترة ما قبل الانتخابات الرئاسية في 2012، وكنتيجة لهذه النظرة المغيبة في قراءة الواقع ومراحل تطور الحدث الثوري حاولت كل القوى أن تقوي شوكتها بالتعامل مع المجلس العسكري وكأنه طرف بغير ذي مصلحة وأنه طرف محايد يجب أن يتم استمالته لجانبها، وقد كان هذا دليلاً على قصر وعدم فهم الجميع سواء بحسن نية أو بسوئها، للمجلس العسكري وطموحاته ووضعه داخل الدولة المصرية وكذلك علاقته الوثيقة بالثورة المضادة وارتباطه بالنظام العالمي بعد اتفاقية كامب ديفيد.
وبعد انتخابات الرئاسة وإعلان فوز الدكتور محمد مرسي، كان الطبيعي أن يكون الاصطفاف بين معسكر الثورة الممثلة في إفرازها الأول وهو الانتخابات الرئاسية وبين الثورة المضادة التي بدورها خسرت الانتخابات التي شاركت فيها بمرشح رئاسي وهو أحمد شفيق، لكن ظل الاصطفاف الأيديولوجي هو الحاكم، وهذا الاصطفاف من الناحية النظرية قد يثري التجربة التي تمر بها مصر لأول مرة، ولكن بالتأكيد هذا الاصطفاف الأيديولوجي المحكوم بالصورة التقليدية لكل طرف دون السماح بحدوث أي تطور فكري لدي الطرفين في تطوير نظراتهم ورؤاهم لمواجهة العدو المشترك (نظريًا) المتمثل في الثورة المضادة، هذه الحالة الساذجة قد سمحت لطرف واحد أن يفرض عقيدته وفكرته وهو الثورة المضادة بجناحها العسكري (العسكر)، ولا نريد أن نطيل في سرد مراحل كان واضحًا فيها كيف أن الكراهية والاستعداء حتى ولو على حساب مصلحة الثورة كانت هي السائدة كما حدث في التعديل الدستوري الذي أقره دكتور مرسي لمواجهة المحكمة الدستورية العليا وكذلك إقالة نائب عام نظام مبارك وهو ما حاربته بشدة القوى المخالفة للتيار الإسلامي رغم يقينها أن هذه الإجراءات ضرورية.
هكذا كانت الرؤية الأيدلوجية التاريخية هي الحاكمة طوال الفترة السابقة دون أن نستطيع أن نقول إن أيدولوجية الثورة كانت على المائدة، لكن الآن بعد الانقلاب العسكري من الخطأ أن تظل نفس الرؤى السابقة هي الحاكمة لكل طرف، فالواضح جليًا أن الوعي بأبعاد المعركة قد اختلف بشكل كبير لدي الجميع وأن هناك أبعاد صارت واضحة متمثلة في دور الرأسمالية في قهر المجتمعات، وتحالف طبقة رجال الأعمال مع الثورة المضادة، ودور المجلس العسكري وطموحه الاقتصادي في السيطرة على كل مؤسسات الدولة، وكامب ديفيد وعلاقتها بتغيير العقيدة القتالية للجيش المصري، والتحول لضرب المقاومة والصداقة مع الكيان الصهيوني ودورها بشكل عام في تغيير العقد المجتمعي وتجزئة الثورة ووحدة الثورة المضادة في مختلف الأقطار العربية، كذلك قضية العدالة الاجتماعية ودورها في إشعال الثورة بشكل حقيقي مع الانتهاكات المباشرة للعمال وعدم تطبيق الحد الأدني أو الأقصى للأجور والقمع العام لأي صوت يحاول أن يغرد بما لا يقبل به الرقيب العسكري وأيضًا التغريب والتضييق الديني.
هذا الوعي الجديد الذي تشكل بعد الثورة ربما بدأت ملامحه تظهر واضحة لدى أغلب الشباب، ولكن لا يمكن أن ننسى أن أبناء الحركة الإسلامية الرافضة للانقلاب العسكري تحديدًا هم من وقفوا بشكل أساسي في مواجهة واضحة مع منظومة (العسكر – الثورة المضادة) بعد الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013، فكان من الطبيعي أن يكونوا هم الأكثر تطورًا، وهكذا نستطيع أن نفهم وجود طرفين أحدهما جيل جديد بأيدولوجية إسلامية واعية مدركة لمشاكل مجتمعه وأبعاد الصراع بصورته العالمية، لامس بشكل واضح النقاط السابقة دون أن يتنازل عن ثوابته المتمثلة في الخلافة والشريعة، ولكن صارت أكثر عمقًا في فهم مقاصد الشريعة والقيم التي يجب أن تمثلها الخلافة كنقيض لكل ما مثله طغيان الحضارة المادية.
هذا التطور الفكري وهذا الوعي صار واضحًا في شعارات مسيراته ومقاومته للانقلاب بمختلف الصور السلمية وأحيانًا العنيفة منها، وأما الطرف الآخر هو طرف مر أيضًا بتطور فكري ملخصه أن العنف الثوري أو الجهادي هو الحل الوحيد للدفاع عن أيدولوجيته التي تداعى عليها الجميع وقاتلوه عليها، بل لم يتعاطفوا مع دمائه التي سالت، هذا الطرف يقاتل الآن في سيناء تحت راية تنظيم الدولة الإسلامية ثائرًا متعطشًا لدماء ظالميه والذين اضطهدوه وقاتلوه سعيًا لمحو تراثه الفكري والقضاء عليه، وقد أدى توافر الظروف الموضوعية من قمع واضطهاد لدعم هذا الطرف عن الطرف السابق.
حتى هذه اللحظة لازالت الأطراف غير الإسلامية غير راصدة لهذا التطور الفكري لدي الطرف الأول وتدرك فقط الطرف الثاني وتنظر له وتتوقف عنده في صورة قد تكون غير محايدة، لتأكيد أن الإسلاميين هم حفنة من الإرهابيين لا يدركون سوى القتل، وحتى هذا الطرف الموصوم بالإرهاب والهمجية والقتل لو لم يكن إسلاميًا لربما اعتبر ثوريًا تحرريًا يواجه بطش السلطة المتحالفة مع رجال الأعمال، هكذا هناك حاجة ملحة أن يحدث تطور أيضًا لدى الشباب غير المنتمي للحركة الإسلامية ولكنه يقف في خانة التضاد مع العسكر ليدرك النقاط التي ذكرناها سابقًا من أبعاد الصراع مع المنظومة الحالية والتي هي نقاط اتفاق مع الطرف الأول من شباب الإسلاميين.
إن المطلوب الآن أن تتجسد أيدولوجية الثورة في مواجهة الثورة المضادة وأيضًا الأيدولوجيات التاريخية الساقطة واقعيًا، وهي أيدولوجية هدفها واضح (العدالة الاجتماعية في مواجهة الرأسمالية – الاستقلال في مواجهة التبعية – الحرية في مواجهة القمع – الهوية في مواجهة التغريب).