و ككل المسافرين العظام، شاهدت أكثر مما أتذكر، وأتذكر أكثر مما شاهدت – بنيامين د.س
ما زلت أذكر ثاني يوم لي في تركيا، إحساس جميل أن تستقيظ وتجد نفسك غريبا في بلد غريبة! وبالطبع فان الإقامة خارج بلدك التي نشأت بها تختلف كثيرا عن أيامك الأخرى، فكما يقول برنارد شو : لا أحب الشعور بأنني في الوطن عندما أكون خارجه، فسفرك يفتح لك الباب لتجربة ما هو جديد من خبرات ومعرفة ما لم تعرفه من قبل من ثقافات وأشخاص وشوارع، وكم هو ممتع حقا النظر الى سماء إسطنبول، والوقوف أمام البحر المتوسط في أنطاليا وتخيل أنك تقف على الجهة الأخرى من البحر الذي طالما جلست أمامه في الإسكندرية، والجري وسط حدائق بورصة، والعيش مع تاريخ شنق قلعة، والتجول وسط سكون مدينة قونيا، أو زيارة أنقرة الباردة، أو التنزه في مدينة الطلاب اسكي شهير، أو الصعود بعيدا الى الشمال حيث البحر الأسود المداعب لشواطئ مدينة سمسون، أو رؤية أكبر فخارية في العالم في ازنك، أو تذكر يوم رحلتي في بانديرما والذي كان موافقا ليوم مقتل صديقي محمد رضا شهيد كلية الهندسة رحمه الله، أو الذهاب بعيدا الى أقصى جنوب شرق تركيا فى تجربة جديدة حيث المدن الواقعة على حدود سوريا ومشاهدة طباع وثقافات قد تختلف عما عهدته من قبل في باقي المدن، والعامل المشترك بين كل تلك الرحلات، أنه لا يهم أبدا كم هي طويلة تلك الرحلة التي هي أمامك، فالرحلة هي الحياة.
سافرت أحيانا وحيدا، وسافرت أحيانا أخرى برفقة أصدقاء، نعم أعلم أن الرفقة هي الأفضل دوما، ولكن أحيانا تصبح الوحدة خيارا لابد منه للخلوة الى النفس، والتحدث الى الذات، فالوحدة دوما ليست جيدة، وكذلك البقاء برفقة الاخرين طوال الوقت ليس دائما جيدا في رأيي، وعلى العموم فان السفر وحيدا يكون أسرع !، والوحدة فقط ليست وحدة النفس، فان ثقل الحقائب التي ترافقها في سفرك قد تضفي اليك كاهلا يمنعك أيضا من تمام الاستمتاع بسفرك، فكما يقول ريك ستيفنز : ” سافر مثل غاندي بملابس خفيفة وعيون مفتوحة وذهن منظم”، ولتمتلك فقط ما تحتاجه ما لا قد تفكر في احتياجه!، وفي يوم ما ستعلم يقينا أنك لم تقم بالرحلة بل الرحلة هي التي تأخذك معها في عالمها الخاص، فكما يقول جون ستنبك : ” الرحلة كالزواج، مخطئ من يظن أنه يستطيع التحكم بها” !
إياك أن تظن يا صديقي أنك بزيارتك القصيرة الى إسطنبول أنك تكون بذلك زرت “تركيا”، فتركيا عالم واسع لا ينتهي، وقد مكثت هنالك ما يقرب من العام الكامل، ورغم كثرة رحلاتي وزياراتي لما يقرب من 20 مدينة الا أنني ما يزال لدي الكثير من الرحلات والأماكن التي يتحتم عليا زيارتها، لأن تلك الأماكن الجميلة لن تأتي الينا بالطبع، علينا نحن أن نذهب اليها كما يقول توني ديلر.
فلقد مكثت في بورصة ومكثت في إسطنبول وزرت أنقرة وازمت وازمير وانطاليا واسكي شهير وقونيا وبانديرما وسمسون وشانك كالي وازنك وديار بكر وماردين واديامان واورفا وفتحية وغيرها، ولكن ما يزال في خطتي باموك كالي وكابادوكيا وايدن وغازي عنتب واضنة ومرسين وطرابزون وفان ومالاطية وادرنة واماسيا وريزه وبردور وبودرم وغيرها، وكل تلك المدن بها الكثير من العجائب والروائع التي لن تراها الا في تركيا، والتي تحمل بين طياتها الكثير من الأسرار والحكايات التاريخية، يكفيك أن تتخيل مثلا أن ذاك المكان الذي تصلى فيه في جامع السلطان أحمد قد صلى فيه قبلك جندي من خير جيوش الأرض ” فاتحي إسطنبول طبقا لحديث لتفتحن القسطنطينية “، أو عند وقوفك على جبل نمروت ومحاولة تخيل كيف تم بناء تلك التماثيل وما قصة بناءها؟، أو الوقوف على شلالات دودن بأنطاليا أو صعود جبل اولودا ببورصة والتعرف على عظمة الله من مخلوقاته.
في إحدى احاديثه معنا، قال لنا أستاذنا في الفصل : ” لا أدرى لماذا يقوم الأتراك بزيارات سياحية لخارج تركيا، عليهم أولا أن يستكشفوا جميع أنحاء بلدانهم ومن ثم يتطلعون الى الخارج !”، ولا أدرى تحديدا اذا ما كنت سأنجح في زيارة تلك الأماكن الكثيرة المتبقية لى في خططي القادمة، نظرا لضيق الوقت القادم خاصة مع دراستي للعمارة، ولكن ما أدريه حقا هو أنني ” عندما أفكر في شيء جديد يتوجب علي فعله أجد نفسي أقرر الذهاب الى مكان اخر غير الذي أنا فيه”.
“و من لا يسافر لا يستطيع أن يمتلك رؤية عالمية فكل ما يراه هو ما موجود أمامه وهؤلاء لا يستطيعون قبول الأشياء الجديدة لأنهم فقط يعرفون أين يعيشون” – مارتين يان
“ستتعلم عن الطريق عندما تسافر فيه أكثر مما قد تقرأه في كل كتب العالم” – ويليام هازلت
“السفر هو أفضل وسيلة لتضل وتجد كل شيء في نفس الوقت –” برينا س.
كما كانوا يقولون قديما السفر يجعل الحكيم أكثر حكمة والأحمق أكثر حماقة، أو كما نرى في المثل العربي القديم : السفر يُسفر عن أخلاق الرجال، نجد حقا أن شخصية المسافر تختلف كثيرا عن شخصية ذلك الذي مكث في بلده ومات بها دون أن يقوم ولو برحلة واحدة فقط، كان هناك سؤال يدور كثيرا في بالى، هل السفر والسياحة ودفع الأموال بها مضيعة لما في يديك من مال ؟، أم أنها حقا تستحق ما تدفعه فيها ؟، هذه المعضلة هي التي تعطل الكثير عن مشاريعهم للسفر وتجول العالم، فنجد الكثير يفضل إبقاء تلك الأموال واستغلالها في أشياء أكثر فائدة ونفعا في وجهة نظره من إنفاقها على السفر وما يتكلفه من متطلبات مادية كبيرة كما يظن، فالبعض يعتقد أن السفر هروب من الحياة ولكن الواقع أن السفر يجعل الحياة لا تهرب منك لا العكس، وكما يقول مصطفى أمين : ” رحلتي في الخارج تساوي الف كتاب”.
لذلك فيكون جوابي لمن يسألني، أأسافر أم أحتفظ بأموالى لأقوم بها بمشروع أفضل يجني علىّ المزيد من الأموال؟ في البداية قبل الجواب أحذره من انك قد تكون اخترت الشخص الخاطئ لأن من تحدثه هو عاشق للسفر، ولكن جوابي هو أن الوسطية بالطبع مطلوبة في كل شيء، ولكن اذا ظننت أنك سوف تحتفظ بها لتجني أموالا أكثر ثم تسافر، فاعلم أنك مخطئ تماما، فقد تأخذك غمرة هذه الأموال والاهتمام برعايتها عن التفكير في السفر أصلا، ولمن ستحتفظ بها؟، هل ستظل طوال عمرك تشقى وتتعب دون أي فرصة للراحة لنفسك ثم تمت دون أن تعرف لماذا جمعتها؟ بالطبع مساعدة أبنائك ومحاولتك للوقوف بجانبهم لهو أمر جيد وعظيم ويبين مدى حب البعض لذريته، ولكن على أن الأمر ليس كذلك دائما،حيث لا يفكر جميع جامعي الأموال بهذا الشكل، الا أنه كما يقول ستيفن كوفي في كتابه القيّم “العادات السبع للأشخاص الأكثر فعالية” عليك دوما بأن تشحذ المنشار، فلتأخذ قدرا من الراحة لنفسك، هذا بالنسبة للجانب المادي، وبالنسبة للجانب الاخر فصدقني يا صديقي، الاستفادة التي تحصل عليها من السفر لهي جديرة بما تأخذ من تكاليف وتضحيات أحيانا، فقط ان عرفت كيف تستفيد من الرحلة، ” فالكنز في الرحلة ذاتها”، و” من الأفضل أن تسافر بشكل جيد على أن تصل”، وعلى جانب اخر كما قلت فان الوسطية مطلوبة في كل شيء، فان تبذير جل مالك في السفر لهو ضرب من التصرفات الخاطئة في نظري، الا أن يكون سفرك هذا صاحب فائدة عظيمة كالشيخ عبد الرحمن السميط الذي جاب الكثير من البلدان للدعوة الى الإسلام وأسلم على يديه الملايين من المسلمين الجدد، رحمه الله رحمة واسعة.
و على مدار الأسابيع القادمة باذن الله، أنشر أوراق من رحلاتي فى أنحاء تركيا، أحكي عما شاهدته وما عشته من تجارب ومواقف، أحكي عن طبيعة البشر الذين قابلتهم، وعن معلومات تاريخية وثقافية عن المدن التي مررت بها، وأزعم أنها ستكون مسلية حقا لمن يقرأها لأنها ستطلعه على معلومات قد لا يكون عرف بها من قبل.