الليبرالية هي عدو النازية بالطبع، لا جدال في ذلك، على الأقل اليوم، بيد أن الكثير من ملامح الليبرالية في شكلها الكلاسيكي يبدو وأنه يحمل تناقضات كثيرة، تجلت بشدة في القرن التاسع عشر بألمانيا حين نشأ التوتر بين مفاهيم المواطنة والمساواة من ناحية، والإيمان بالدولة القومية من ناحية أخرى، وكان النزاع بين ألمانيا والدنمارك تحديدًا في عام 1864 إحدى تجليات ذلك التوتر، وللمفارقة واحدة من أبرز أسباب ظهور النازية في ألمانيا في القرن العشرين.
مسألة شلِسويغ Schleswig Question
شلِسويغ وهولشتاين هما مقاطعتان متداخلتان بين ألمانيا والدنمارك، وقد كانتا جزءًا من السيادة الدنماركية حتى مطلع القرن التاسع عشر، حين ظهرت للسطح المسألة القومية نظرًا لكون معظم أهلها من الألمان وإن غلب الدنماركيون في شمال شليسويغ، وبينما تمتع أهلها بالحُكم الذاتي طبقًا لبروتوكول لندن الذي نظم تلك المسألة، فإن قرارًا دنماركيًا ببسط سيادة الملكية على المقاطعتين، وإصلاحات جديدة مركزية لبث الانتماء للتاج الدنماركي، قد أدت لبروز إشكالية كبيرة حيال المتحدثين بالألمانية القاطنين فيهما، والذين أصبح لزامًا عليهم أن يدرسوا بالدنماركية، ويخضعوا مباشرة لإدارة دنماركية.
بالطبع، أدت تلك الإصلاحات لتذمر الألمان في شلِسويغ وهولشتاين، كما أثارت حفيظة القوميين الليبراليين الألمان، والذين رأوا أن ما قامت به الدنمارك هو جريمة في حق الـ”فولك” أو الأمة بتمرير ثقافتها الألمانية دون قيود للأجيال القادمة، وهو حق ليبرالي نظرًا لاستقامته مع مبادئ حرية التعبير، ولكنه كان قوميًا في نفس الوقت، وقد أحدث حراكًا في ألمانيا نحو سياسة داخلية أكثر قوة وجرأة في توحيد الألمان، وخارجية أكثر صرامة مع دول الجوار لاحترام الشعوب الألمانية، وأدى لنشوب حرب بين البلدين انتصرت فيها ألمانيا واستحوذت على المقاطعتين.
كل ما يعرفه الألمان حاليًا عن الحرب من كتبهم الدراسية هي أنها أول حرب خاضها بيسمارك في سبيل توحيد ألمانيا وبسط هيمنته داخليًا على الدولة الألمانية الناشئة التي أصبحت تحت حكمه دولة أوتوقراطية، وهي حرب لا يسلّط عليها الضوء كثيرًا رغم أهميتها نظرًا للحربين الأهم ضد النمسا وفرنسا اللتين تلتاها، إلا أن ما جرى فيها يمكن أن يحكي لنا الكثير عن جذور الدولة القومية الليبرالية في شكلها التقليدي ومفاهيم علاقة الدولة بالمجتمع، والتي استندت نظريًا لأفكار تحررية عالمية مثل ضرورة تمتع الجميع بنفس الحقوق والواجبات، ولكنها في نفس الوقت استبطنت تحيزات عمّن يجب عليه أن يمارس السلطة السياسية، وإلى أي مدى يجب أن تذهب تلك السلطة لتحمي المجتمع من الفوضى.
زواج الليبراليين والدولة
كانت قواعد الليبراليين الجماهيرية آخذة في النمو منذ خمسينيات القرن التاسع عشر، وقد رأى بيسمارك المحافظ فيهم سندًا جيدًا لطموحاته في الداخل والخارج، لا سيما وأنهم روجوا لأفكار المساواة والبرلمانات كأساس لسيادة الأمة ساعدته في تضييق سلطان الملوك الألمان (وكان اتحاد الدول الألمانية المعروف بـ”بروسيا” ملكية آنذاك)، وفي نفس الوقت (في إحدى تجليات التناقض) أكدوا على أحقيتهم دون غيرهم في قيادة ألمانيا نظرًا لتعليمهم الراقي ومعرفتهم بالتراث الألماني، مما أتاح له خلق بيروقراطية أوتوقراطية عبر تلك المجموعة كما أراد، بدلًا من الديمقراطية الصِرفة التي تحفّظ عليها.
بالفعل، وبعد الانتصار في حرب شلِسويغ، أشعل ذلك التحالف مشروعًا جديدًا توطدت معه مصالح الليبراليين مع مشروع توحيد الألمان وهيمنة الدولة، وكانت المفارقة أن كل ما عاناه الألمان تحت التاج الدنماركي، أصبح واقعًا على الدنماركيين ممن بقوا كأقلية في شلِسويغ وهولشتاين تحت حُكم الألمان، حيث تم منع استخدام اللغة الدنماركية في المدارس والصحافة إلى جانب الألمانية، كما نشطت دوائر القوميين الألمان على المستوى المحلي لتقصي تمامًا أي محاولات لخلق قوى دنماركية محلية ترعى مصالح مجتمعاتها، وبالتبعية أي ظهور لهوية غير متجانسة مع الفولك الألماني، وقد وصلت تلك الجهود لأوجها بطرد حوالي ألف دنماركي عام 1898.
رسمٌ يوضح المعركة بين سلطان الدولة الذي جسده بيسمارك وتأسيسه لألمانيا وسلطان الكنيسة التقليدي بقيادة البابا الكاثوليكي
بالإضافة للهوس بتجانس ألمانيا، ونتيجة لتأثير نخبة الليبراليين أيضًا، والذين كانوا يمثلون في ذلك الوقت في أوروبا صوت الابتعاد عن المؤسسة الدينية ورعايتها للملوك باسم المساواة وسيادة الجماهير، بدأ بيسمارك حملة شرسة ضد الكاثوليك والانتماء للكنيسة الكاثوليكية، والتي رأي الليبراليون أنها تقوّض سياسيًا من سيادة الدولة التي يُفتَرَض أنها أكثر تقدمية، وتتناقض ثقافيًا مع الانتماء للقومية التي مثلت في ذلك الوقت المخرج الرئيسي من الهويات الدينية، أضف لذلك أن التحالف القديم بين الكنيسة والأسر الحاكمة كان في نظرهم تعزيزًا لانعدام المساواة، في حين كانت فكرة الدولة القومية التي تقوم على المواطنة أكثر عدلًا.
خلال هذه الحملة الثقافة، أو الكولتوركامپف، تم حبس معظم القساوسة الكاثوليك أو نفيهم من ألمانيا، وتم إلغاء القسم الكاثوليكي التابع لوزارة الثقافة، ليصبح الصوت الكاثوليكي مع الوقت شبه منعدم داخل دوائر السلطة الألمانية، رُغم أن ثلث الألمان كانوا كاثوليك في ذلك الوقت (ولا يزالون بنفس النِسبة حتى الآن)، كما مررت السلطة حزمة من القوانين المعادية للثقافة الكاثوليكية الرومانية لتتمكن من الإشراف بنفسها على التعليم الديني الذي يخضع له أعضاء الكنيسة.
تباعًا، تبلورت جهود الدولة الألمانية برعاية الليبراليين ليصبح الرايخ موجهًا ضد معظم من رأوا أنهم لا يمكن أن يصبحوا مواطنين ألمان، وقد شمل ذلك البولنديين في الشرق والدنماركيين في الشمال والفرنسيين في الغرب، ثم اليهود والغجر الذين تعرضوا لضغوط كبيرة، وتم طرد بعضهم، وهي سياسات اعترض عليها الاشتراكيون والكاثوليك، حيث رأي الفريق الأول أن ما يجري باسم القومية يفسد مبدأ المساواة الذي يدعيه الليبراليون، في حين كانت الكنيسة ترى أن ما يجري تفرقة لا أساس لها ما دام انتمى الجميع للمسيحية، وبينما استمر الكولتوركامپف ضد الكنيسة، فإن الحجة الوجيهة بوجه الاشتراكيين كانت أنهم مفرطون في الراديكالية، وبالطبع، إرهابيون.
بين القرنين التاسع عشر والعشرين
يونانيون نازحون من تركيا في طريقهم إلى اليونان
مع أواخر القرن التاسع عشر، لم تعد تلك المسألة فريدة وألمانية، حيث انتشرت إلى الروس الذين حاولوا “روسنة” الأقليات، والمجريين الذين فعلوا عين الشيء، والنمساويين الذي وقفوا بوجه الطليان والتشيكيين، ثم ظهور المسألة الأيرلندية على السطح في بريطانيا والتي اجتمعت فيها القومية مع الانتماء للكنيسة الكاثوليكية، وأيضًا الفرنسيين والطليان الذين رأوا في التمايزات الثقافيات والنعرات المحلية تقويضًا للدولة وعملية التقدم، وجزءًا من ماضي العصور الوسطى الفوضوي.
مع مطلع القرن العشرين، كان بروز القوة الأمريكية قد غيّر بعضًا من تلك المفاهيم نتيجة الطبيعة المختلفة للنظام الأمريكي، والذين لم يكن له أي أساس قومي، وإن كان عنصريًا تجاه السود، وكان هوسه الأساسي بالديمقراطية باعتبارها لُب الشرعية السياسية، لا بالدولة المتجانسة في وجه الكنيسة، وهو ما أدى لظهور مسألة حق تقرير المصير في إطار مفهوم الدولة القومية، والذي رعاه بالأساس الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون وعصبة الأمم التي ساهم في تأسيسها، وقد تم تطبيقه على شلِسويغ وهولشتاين عام 1920، ليختار الدنماركيون الغالبون في شمال شلِسويغ الانضمام للدنمارك، بينما انضمت البقية للألمان.
بالطبع كان ذلك انتصارًا للديمقراطية على الحسابات الاستراتيجية والقومية الصِرفة، ولكن تقرير المصير في نفس الوقت استبطن الافتراض القائل بأن تجانس أي دولة هو حالتها طبيعية، وأن وجود أي تمايز ثقافي هو مجرد استثناء، والفرق الوحيد بين القرن التاسع عشر الأوروبي هو أن حل المشكلة كان فرض التجانس بالقوة، أو ربما الدخول في حرب، في حين كان في القرن العشرين الأمريكي في معظمه، كان الحل ديمقراطيًا أكثر.
مسلمو الهند يتزاحمون على قطار متجه من الهند إلى باكستان
لم يكن غريبًا إذن أن تصبح القومية مهمومة منذئذ إما بطرد، أو حتى التخلص من، بعض مكوناتها، لكيلا يتاح لها أصلًا تقرير المصير، وهو ما يفسّر الكثير مما جرى في أوروبا طوال القرن الماضي، بدءًا من الهولوكوست الذي طال اليهود والغجر، ومذابح الأرمن في الحرب العالمية الأولى، والمذابح التي تعرض لها البوسنيون، ثم المحاولات الروسية الحثيثة نشر الروس سكانيًا في آسيا الوسطى وأوكرانيا وتغيير الخريطة الديغرافية بشكل يغير من الحسابات الديمقراطية في تلاعب واضح بـ”حق تقرير المصير”، وأخيرًا الانقسامات بين هويات لم تعد قادرة على التآلف في زمن القومية كما جرى بين الهند وباكستان، وأثناء التبادل السكاني بين تركيا واليونان.
ليبرالية بدون تحرر Liberalism without Liberation
حتى يومنا هذا، لا تزال هناك الكثير من التناقضات الكامنة في الأيديولوجيا الليبرالية، والتي ورثتها عن الليبرالية الكلاسيكية، وأبرزها بالطبع تبني مفاهيم التعددية الثقافية والكوزموبوليتانية في نفس الوقت الذي تقر فيه بأن الفولك لا يزال هو الأساس لتعريف الدولة الحديثة، مما يخلق تمايزًا بين الأغلبية والأقلية لا تشفع له بالضرورة فكرة حقوق الأقليات الذين يمكن لهم أن يترشحوا للمناصب العليا ويحصلوا على حقوقهم كاملة، حيث أن تعريف “حقوقهم” يظل خاضعًا في الحقيقة لفكرة التجانس القومي التي يُعَد التمايز فيها استثناءً و”إشكالية” أو “مسألة.”
بطبيعة الحال، ومع تحوّل قبلتها من الدولة إلى السوق، أصبحت الليبرالية “أكثر ليبرالية” إن جاز القول في التعامل مع فكرة القومية الآن، لا لنقد للفكرة ذاتها ولكن للإعاقة التي أصبحت تمثلها لحرية حركة رأس المال، لتصبح مرة أخرى مدفوعة بمصالحها المرتبطة بالسوق، لا بالمُثُل التي يُفتَرَض أن تمثلها نظريًا، كما دفعتها مصالحها المرتبطة بالدولة في مرحلتها الكلاسيكية بالانصياع للسقف القومي للدولة، ولعل ذلك هو نفس ما جرى مع الاشتراكيين بشكل ما اختلف ما إن وصلوا بخطابهم عن المساواة إلى الدولة، كما تشي حالات كثيرة مثل الاتحاد السوفيتي، أو ربما ما جرى مع الديمقراطيين الاجتماعيين بعد أن فُتِح لهم المجال الديمقراطي الليبرالي، وخفف كثيرًا من المكون الراديكالي لديهم.
أطفال يهود و/أو غجر في انتظار موت مُحتَمَل أثناء الحرب العالمية الثانية
لعله كان حريًا بليبرالية أكثر اتساقًا أن تغيّر المفهوم الذي يخلق من البداية وضعًا تصبح معه تلك المجموعات أقلية استنادًا للعرق، إذ أن تعزيز حقوقهم دون مناقشة مفهوم “الأقلية” لا يعدو كونه تحولًا عن نُظُم أخرى مثل نظام الذمة الإسلامي أو الطبقي الهندوسي، مع بعض التحسينات السياسية، ولا يرقى إلى تقدّم حقيقي في خلق نظام أفقي بالكامل، بل ويمكن القول أن النظم التقليدية كانت تعاني من الرأسية على حد قول نقادها نظرًا لعدم قدرتها على إنكار التعددية كسُنة في الحضارة البشرية، وهو ما استتبع انطلاقها من هنا وتقديم صيغة سياسية لها، على العكس من الليبرالية والتي انطلقت من افتراض التجانس لترسم مشروعها، وليصبح شاغلها في القرن التاسع عشر، حين اكتشفت الهوة بين الواقع والنظرية، فرض التجانس باستخدام الدولة، وفي القرن العشرين إفساح المجال للواقع باسم حقوق الأقليات.
في كل الأحوال، تظل الدولة القومية الليبرالية عاجزة عن مواكبة الثراء الثقافي الشديد الذي اضطرت لمواجهته بعد أن نزلت من أبراج النظريات إلى أرض الواقع، ولعلها ستحتاج إلى التخلي عن التعريف القومي برمته إن أرادت أن تواكبه بشكل كامل، وهي ستفقد الكثير من أحلامها في الطريق، أبرزها الكفاءة القصوى نظرًا للمنظومة المعقدة التي ستحتاجها على كافة المستويات لتقديم صيغة مناسبة لمجتمعاتها، وكذلك الخطاب الهوياتي الرسمي الذي لا يمكننا بسهولة تخيّل دولة بدونه، فكيف يتم إذن نسج هوية رسمية جامعة لمجتمع متعدد قوميًا؟ وهل من نماذج قائمة حاليًا يمكن أن تفتح الطريق؟