ترجمة وتحرير نون بوست
عشت جزءًا كبيرًا من طفولتي، مع والداي وهم يأخذانني، لمرة واحدة في كل سنة أو نحو ذلك، إلى عيادة تقويم أسنان جديدة في كل مرة، حيث كنت أحصل هناك على توصية خطية أخرى لإجراء تقويم الأسنان، لإرسالها إلى شركة التأمين الخاصة بعائلتنا، وبعد أن تعلن الشركة صراحة وبشكل حتمي عدم قبولها بتغطية التكاليف، لأي سبب من الأسباب الغريبة التي كانوا يضعونها، (أسناني تتحرك كثيرًا، أو ليست سيئة لدرجة وضع التقويم عليها، أو سيئة للغاية بحيث لا يكفي التقويم لإصلاحها بدون جراحة)، أبدأ مع عائلتي على الفور بوضع إستراتيجيات لنعمل عليها في العام المقبل.
اليوم، نحو 4 ملايين أمريكي يضعون تقويم الأسنان، وفقًا لإحصائيات الجمعية الأمريكية لتقويم الأسنان، علمًا أن عدد مرتدي التقويم تضاعف تقريبًا في الولايات المتحدة ما بين عامي 1982 و2008.
تقويم الأسنان الذي نعرفه اليوم، المكوّن من سلسلة من الدعائم المصنوعة من الستنالس ستيل توضع فوق كل سن، ومثبتة عن طريق أطواق تثبيت تلتف حول الأضراس، ويحيط بها سلك سميك ليضغط على الأسنان، يعود تاريخها إلى أوائل القرن الماضي، ولكن الاهتمامات الثقافية والاجتماعية البشرية بالأسنان غير المنضبطة، يعود تاريخها إلى زمن أقدم من ذلك بكثير.
تكهنت بعض أقدم الكتابات الطبية، بالمخاطر الناجمة عن اضطرابات الأسنان، هذه الاضطرابات هي نتيجة ثانوية للتطور، الذي ترك الإنسان العاقل مع فك أصغر وأقواس أسنان أضيق، وتشير موسوعة أبقراط الطبية، أن الأشخاص الذين يكون قوس الحنك لديهم غير طبيعي ويعانون من أسنان غير منضبطة، يعانون بالغالب من صداع ومن الثر الأذني، وهي إفرازات قيحية من الأذن، كما أوصى الطبيب الروماني أولوس كورنيليوس سيلسوس مقدمي الرعاية للأطفال، استخدام أصابعهم للضغط بشكل يومي على أسنان الأطفال الدائمة الجديدة لضمان نموها في مكانها الصحيح، فضلًا عن أنه تم العثور على بعض المومياوات المصرية التي تمتلك أطواق تثبيت من الذهب حول بعض أسنانهم، والتي يعتقد الباحثون أنها اُستخدمت لإغلاق ثغرات الأسنان.
حتى وقت قريب نسبيًا، بقي اهتمام أطباء الأسنان بتقويم الأسنان في المقام الثاني، وذلك بعد اهتمامهم بشكل مطلق بتسوس الأسنان؛ فقبل عصر طب الأسنان الحديث، غالبًا ماكانت تُنسب آلام الأسنان إما لديدان الأسنان، أو إلى عدم توازن السوائل المصلية الأربعة، والعلاجات الأكثر شيوعًا كانت تتضمن الشق لاستنزاف السائل من اللثة أو الخدين، أو سحب السائل من داخل الورم، وخلال العصور الوسطى، أصبحت مهنة طبيب الأسنان سهلة نسبيًا، ويمكن لأي شخص أن يتعلمها، وكان يكفي أن يتمتع الشخص بحنكة ليروج لنفسه قليلًا، ليفتتح محلًا للأسنان في السوق المحلية أو في الساحة العامة، واستمر الأمر على هذا النحو لعدة قرون، وكما يذكر جيمس وينبراندت في كتابه “تاريخ طب الأسنان”، في عام 1825 كان هناك حوالي 100 شخص يعمل في مهنة الأسنان في الولايات المتحدة، وارتفع هذه العدد فجأة إلى أكثر من 1200 شخص في عام 1840، والسبب في هذه الزيادة يعود إلى أنه وبعد حالة الذعر المالي في عام 1837، تحوّل العديد من الميكانيكيين العاطلين عن العمل حديثًا إثر الأزمة في البلاد، كما تحوّل العمال اليدويين، لممارسة فن قلع الأسنان.
الطبيعة العشوائية لطب الأسنان تاريخيًا، شجعت ممارسي هذه المهنة للعمل بشكل أكثر جدية لتمييز أنفسهم، وذلك من خلال التركيز على صناعة أطقم الأسنان، فكما كتبت لوس أنجلوس تايمز في مقالة لها في عام 2007 تناولت تاريخ أطقم الأسنان، “أطقم الأسنان منذ العصور القديمة وحتى القرن الـ20، كانت تصنع من مجموعة واسعة من المواد، بما في ذلك عاج فرس النهر، ناب حيوان الفظ، وأسنان البقر”.
بيير فوشار، طبيب فرنسي من القرن الـ18، يوصف أحيانًا بأنه “أبو طب الأسنان الحديث”، كان أول من ثبّت أطقم أسنان مرضاه في مكانها من خلال ربطها بالأضراس، صائغًا بذلك أحد المبادئ الأساسية لتقويم الأسنان المعاصر، كما وضع فوشار عددًا من التقنيات الأخرى لتقويم الأسنان، بما في ذلك تقديم الأسنان المتوضعة بشكل بارز فوق بعضها الآخر، باستخدام مجموعة من الملاقط المعدنية، لخلق مسافة بين الأسنان المتراكبة فوق بعضها، كما وضع فوشار ما يعتبره الكثيرون اليوم على أنه أول نموذج للأجهزة التقويمية، وهو جهاز العصبة، وهو عبارة عن عصبة معدنية تهدف إلى توسيع قوس الأسنان، دون تقويم كل سن وحده.
في ذات الفترة تقريبًا التي كان فيها فوشار يمارس مهنة طب الأسنان، تزايدت وترسخت الرغبة لدى أثرياء أوروبا والولايات المتحدة للحصول على مجموعة متناظرة من الأسنان، وجاء توماس بيدمور، طبيب الأسنان الشخصي لملك إنجلترا، جورج الثالث، بتبرير للفوائد الطبية والاجتماعية للأسنان المتناظرة، حيث أوضح أنها “تسمح للهواء النقي والصحي بالدخول إلى الوجه، وتحسّن من نبرة الصوت، وتجعل النطق أكثر قبولًا وتميزًا، وتساعد على المضغ”.
وفي كتابه “لمحة تاريخية عن الابتسامة”، يصف أنجوس ترامبل ارتباط الأسنان السيئة وغير السليمة ضمن البيئة الاجتماعية بالفساد الأخلاقي؛ فالرسامون في تلك الفترة استخدموا الأفواه المفتوحة لتصوير الفحش، والجشع، أو أي نوع آخر من الفساد المستشري، وكما جاء في الكتاب “معظم الأسنان والأفواه المفتوحة في المجال الفني، تعود إلى الرجال المسنين القذرين، البخلاء، السكارى، العاهرات، الغجر، الأقزام، المجانين، الوحوش، الأشباح، الممسوسين، الملعونين، والذين يجمعون جميع هذه الصفات، وهم جامعو الضرائب ، فالكثير من هؤلاء كانوا يمتلكون ثغرات وثقوب حيث كانت تتوضع أسنانهم السليمة ذات مرة”.
كما أوضح طبيب الأسنان الأمريكي يوجين تالبوت، والذي كان أحد أوائل المنادين بإدخال الأشعة السينية إلى مجال طب الأسنان، “إن سوء إطباق الفكين – اختلال محاذاة الأسنان – هو مرض وراثي، والأشخاص الذين كانوا يعانون منه هم من المصابين بمرض عصبي، أو من الحمقى، أو المنحطين، أو المجانين”.
في القرن الـ20، تم أخيرًا تطويع تسوس الأسنان، وذلك من خلال التقدم في علم الأحياء المجهرية، الذي أسس للعلاقة ما بين تجاويف الأسنان والوجبات الغذائية الغنية بالسكر أو بالدقيق المعالج، وفي الولايات المتحدة بشكل خاص، تزامن التقدم والتطور في علم تقويم الأسنان مع انخفاض حالات قلع الأسنان، وأصبحت ابتسامة الفم الفاغر الفخورة هي القاعدة الثقافية في هذا المجتمع؛ فمن إعلانات السجائر إلى إعلانات أدوية جلي الأطباق، كانت الإعلانات التلفزيونية وإعلانات المجلات تترافق دائمًا مع الابتسامات البراقة، ولم يعد تقاسم الابتسامة مع شخص آخر ينم عن حسن الخلق فحسب، بل أصبحت الابتسامة إشارة إلى أن المبتسم كان زبونًا طوعيًا لعجائب الطب الحديث.
في أوائل القرن الـ20، تم منح إدوارد آنغل، وهو مختص أمريكي رائد في مجال تنظيم الأسنان، 37 براءة اختراع لمجموعة متنوعة من الأدوات التي استخدمها لعلاج سوء إطباق الفكين، بما في ذلك موسّع قوس الأسنان المعدني (E-Arch)، وجهاز المجانبة، وهو عبارة عن شريحة معدنية يعتبرها الكثيرون أساس تقويم الأسنان اليوم، وعمل آنغل على ببيع هذه الاختراعات بمختلف القياسات، واشترى أخصائيو تقويم الأسنان الآخرين اختراعات آنغل لاستعمالها في مهنتهم، مما أنهى عصر الحاجة إلى تصميم وتصنيع أجهزة خاصة بكل مريض جديد.
ممارسة تقويم الأسنان اليوم تعتمد بشكل متساوٍ على التشخيص الفردي لكل شخص على حدة، وعلى أدوات الإنتاج الشامل، وتسعى هذه الممارسات غالبًا لتغليب المظهر غير الضروري على الناحية الطبية؛ فالتطورات الجارية على الأدوات الأساسية مثل فراشي الأسنان، وأدوات التنظيف بالخيط، وعلم الأحياء الدقيقة، هزمت إلى حد كبير مشكلة تسوس الأسنان واسعة الانتشار، ولكن بقيت المشكلة، التي يخالها الأشخاص جوهرية، المتمثلة بعدم التماثل في الأسنان، لا بل تكثفت هذه المشاكل بشكل كبير بطريقة أو بأخرى، وأصبح خيار ترك الفم في حالة من الفوضى الجمالية إهانة ضمنية للنزعة الاستهلاكية الطبية.
في كتابه “لمحة تاريخية عن الابتسامة” يكتب ترامبل “بقدر ما كانت الابتسامة ترتبط دائمًا مع ضبط النفس، الذي يتلازم مع قيود على السلوك التي تُفرض على الرجال والنساء من قِبل قوى الحضارة العقلانية، بقدر ما كانت الابتسامة تعطي علامة عن العفوية، أو تصبح كمرآة نستطيع من خلالها أن نرى انعكاسًا للسعادة الشخصية والفرحة، أو روح الدعابة لمن يبتسم”، وهكذا وُجد تقويم الأسنان لمعالجة ضرورة طبية حقيقية، ولكنه وجد أيضًا، وفي أغلب الأحيان، لتمكين الشخص من ممارسة التصحيح الذاتي غير الضروري للأخطاء في الأسنان.
مع عمليات لا لزوم لها في كثير من الأحيان، ومع اتخاذها من الابتسامة الكاملة كأساس لمورد رزقها، تتبنى صناعة تقويم الأسنان تأثير الدواء الوهمي “البلاسيبو”، حيث جاء في موقع الجمعية الأمريكية لتقويم الأسنان على الإنترنت “الابتسامة الرائعة تساعدك على الشعور بأنك أفضل وأكثر ثقة بنفسك، ويمكنها أن تغيّر حرفيًا الطريقة التي يراك بها الأشخاص، في العمل وفي حياتك الشخصية”.
على الرغم مما تقدم، اصطدم وعد الأسنان الجميلة في الآونة الأخيرة، مع ارتفاع تكلفة تقويم الأسنان، مما أدى إلى بزوغ وتعزيز ثقافة فرعية جديدة خطيرة، تتمثل بالعلاجات المنزلية لتقويم الأسنان، مسترشدين بمقاطع فيديو اليوتيوب، ومواقع المعالجة المثلية، يحاول بعض الأشخاص محاذاة أسنانهم باستخدام مشدات مرنة أو مجموعات قوالب بلاستيكية، وهي ممارسة هاوية وتقريبية لما يقوم به تقويم الأسنان الاختصاصي، وأصبحت هذه الممارسة منتشرة على نطاق واسع جدًا، مما حذا بالمجلة الأمريكية لتقويم الأسنان وجراحة الفم والوجه والفكين، إلى إصدار تحذير من أن هذه الإجراءات غير الخاضعة للرقابة، يمكن أن تؤدي إلى تقرحات حول جذور الأسنان، وتسبب في بعض الحالات سقوطها تمامًا؛ فالضغط المفرط يمكن أن يعيث فسادًا في الفم، ويتداخل مع عملية امتصاص الجذور في الأسنان، الضرورية لترسيخ الأسنان في موقعها الجديد، إلا أن شعبية هذه الممارسة، بشكل أو بآخر، هي نتاج خاص عن السياسية التسويقية التي تنتهجها صناعة تقويم الأسنان، والتي تعوّض عدم الضرورة الطبية لتقويم الأسنان بالسعي لتحقيق النواحي الجمالية.
هذه السياسة المغلّبة للجمال استطاعت إقناعي بالفعل، فعندما أصبح عمري 21 عامًا، وعقب النجاح الذي حققه والداي أخيرًا في هزيمة المتاهات البيروقراطية لشركة تأمين عائلتنا، بعد سنوات من الرفض، أتذكر الجلوس في غرف المعاينة مع أخصائي تقويم الأسنان، الذي كان سيباشر أخيرًا بوضع تقويم الأسنان الخاص بي، وكنت أشاهد الصور الحاسوبية التي تبين الطريقة التي سيبدو بها وجهي إثر عامين من وضع تقويم الأسنان، وحدقت مطولًا في شاشة الكمبيوتر، في الوقت الذي كان فيه الاختصاصي يشرح لي جميع الأمور التي ستتغير في وجهي، وحاولت التمسك بهذه الصور عن وجهي الجديد، في الوقت الذي كان فيه الاختصاصي يركب التقويم في فمي، مقاومًا أول إحساس مزعج بالضغط الشديد الذي أشع داخل جمجمتي.
في نهاية المطاف، وعندما أصبحت بعمر الـ24، خلعت التقويم أخيرًا، وبعد الإزالة، اختل توازني وأنا أمشي إلى سيارتي المركونة في موقف السيارات، وكافحت للبقاء واقفًا على أقدامي خلال سيري ضمن مرآب السيارات؛ فبعد ثلاث سنوات من استشعار الضغط المستمر على أسناني، أحسست بعشرة أرطال تُزال من أمام وجهي، الأرض تمايلت تحت قدميّ، وتحركت ببطء شديد خوفًا من الوقوع، وعندما أغلقت فمي، شعرت بشعور غير مألوف في أسناني، مجموعة من العظام الصغيرة التي تلاقت مع بعضها في أماكن لم تلتقِ بها مسبقًا.
لبضعة أيام، كان مضغ أي شي داخل فمي، يولّد فوق لثتي أحاسيس جديدة وغير متوقعة، كانت كل قطعة طعام تشكّل تجربة جديدة، واكتشفت ميزات لم أكن قد عهدتها من قبل، ولكن بعد أسبوع أو نحو ذلك، عادت الحياة إلى شكلها الطبيعي؛ فوجباتي عادت لتصبح وجبات طعام عادية مرة أخرى، ولم يعد إحساس قضم التفاحة بين أسناني يشعرني وكأني أمشي على سطح القمر، كما فقدت لذة تمرير المياه من خلال الفراغات بين أسناني، وفي نهاية المطاف، نسيت أن فمي كان في مختلفًا في أي زمن مضى على الإطلاق.
المصدر: ذي أتلانتيك