ترجمة وتحرير نون بوست بتصرف عن المصدر الأصلي*
قبيل اندلاع الاشتباكات بين القوات المسلحة المصرية ومسلحي “ولاية سيناء”، التنظيم التابع لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، في مدينة الشيخ زويد مطلع يوليو الجاري، كانت قافلة خيرية محدودة العدد من المتطوعين المستقلين تشق طريقها من القاهرة إلى مدينة العريش. كان من المفترض بالقافلة أن تتوجه من العريش إلى ضواحي مدينة الشيخ زويد، وهي رحلة تبعد حوالي 30 كم فقط، ولكن على الرغم من ذلك، فإن هذه المسافة القصيرة قد استغرقت حوالي أربع ساعات، وهو ذات الوقت الذي استغرقته رحلة الـ350 كم من القاهرة إلى العريش، عاصمة محافظة شمال سيناء.
دفعت الاشتباكات المستمرة، بين الجيش ومسلحي “ولاية سيناء” (أنصار بيت المقدس التابعة بشكل غير رسمي لتنظيم القاعدة سابقاً) القافلة إلى استخدام طرق التفافية، لتجنب نقاط التفتيش والحواجز التي يقيمها الجيش على الطريق الرئيسية المغلقة. ورغم أن الرحلة كانت محفوفة بالمخاطر، إلا أن المجموعة الصغيرة من المتطوعين القادمين من القاهرة والإسكندرية، ومعهم بعض المتطوعين المحليين من العريش، كانوا مصممين على الوصول إلى القرى الفقيرة في المنطقة المنكوبة من سيناء، بغية تقديم المساعدات الخيرية في شهر رمضان المبارك.
استهدفت القافلة الوصول إلى قرية “شيبانة”، كواحدة من أقصى القرى النائية المحرومة من المرافق الرئيسية والخدمات التعليمية والصحية، والتي تعد مدينة الشيخ زويد بالنسبة لها أكثر حضارة وعمراناً. أما العريش التي ترزح تحت حظر تجوال ليلي لمدة أقصر من المنطقة الحدودية فهي، بالنسبة لهم، “العاصمة الصاخبة”.
خططت المجموعة لاستكمال مهمتهما من خلال شراء المواد الغذائية والسلع من الأسواق المحلية لإنعاشها وإحداث شيء من الرواج بعد ركودها طويلاً بسبب الصراع المسلح. وبينما كانوا في سوق القرية أوقفهم رجلان ملثمان يستقلان دراجة بخارية ويتأبط كل منهما رشاشاً آلياً، فأصبحت القافلة رهن قبضة أعضاء تنظيم “ولاية سيناء”.
بدأ المسلحان في استجوابهم إلى أن هرع إليهم الشيخ المحلي الذي كانوا في ضيافته، مخبراً الملثميْن أنه قد سبق وأخبر قيادتهما التنظيمية في القرية بأنه في انتظار ضيوف من القاهرة.
”رفضنا بأدب دعوة المسلحين للإفطار، ولكن لم يمكن بإمكاننا رفض جلسة الاستماع التي تم عقدها لنا في المساء“، هكذا قال منظم القافلة، مشيراً إلى العرض التقديمي الإلزامي الذي أقيم لهم لشرح دوافع وأهداف “الدولة الإسلامية” في سيناء والذي أجبروا على حضوره.
”لقد كنت أفكر في الضربة الجوية المحتملة التي قد ينفذها الجيش لاستهداف “اجتماع التكفيريين”. فقد أُخْبرنا مسبقاً بأن العديد من المدنيين، من بينهم نساء وأطفال، قتلوا عن طريق الخطأ، ولكن هذه المرة، إذا تم قصفنا، فلن يكون ذلك بالخطأ، فقد أجبرنا أن نكون في المكان ذاته مع المسلحين“، يضيف أحد المتطوعين المشاركين.
قضت المجموعة ليلة عصيبة ومتوترة للغاية في القرية، حيث اضطروا للمكوث بين النيران والقذائف التي أطلقتها مدفعية الجيش المصري في خضم معركته ضد تنظيم “ولاية سيناء”. وبعد يومين عصيبين، غادرت القافلة المنطقة بعد أن شهدوا القتال بين الجيش وتنظيم “ولاية سيناء”، وقد قضوا الليل في الحديث إلى مضيفيهم الذين أخبروهم أن المسلحين يسيطرون الآن على خمس قرى على الأقل جنوب الشيخ زويد ورفح، تلك التي تم تدميرها جزئياً جرّاء قصف الجيش المصري. وبتأكيد من مصادر محلية أخرى، فإن هذه القرى تشمل كلاً من “المهدية”، و”المقاطعة”، و”الثومة”، و”الظهير”. لكن تنظيم “ولاية سيناء” لم يعلن رسمياً عن سيطرته على تلك القرى، وكذلك لم يفعل الجيش المصري.
على مدار السنة الماضية، كان تنظيم “ولاية سيناء” قادراً على بسط سيطرته على مساحات واسعة من المنطقة الشمالية الشرقية من سيناء، حتى قبل إعلان البيعة لتنظيم “داعش” في نوفمبر 2014. وعلى الرغم من أن منطقة الاشتباكات لا تتجاوز مساحتها 10% من كامل مساحة شبه جزيرة سيناء، بيد أنها تعد من أكثر المناطق المأهولة بالسكان، بالإضافة إلى كونها أفضل مناطق سيناء من حيث التضاريس والصلاحية للزراعة. يُقدر سكان الشيخ زويد ورفح وحدهما، حسب تقديرات غير رسمية، بحوالي 120.000 نسمة، منهم حوالي 30.000 شخص كانوا يعيشون في الضواحي والقرى الجنوبية لهاتين المدينتين، قبل النزوح واسع النطاق الذي نتج عن القتال والاشتباكات الدائمة، فضلاً عن التهجير القسري من أجل إنشاء المنطقة العازلة مع قطاع غزة.
استطاع تنظيم “ولاية سيناء” إقامة نقاط تفتيش في المناطق التي سيطروا عليها. كما أحكموا قبضتهم على السكان المحليين، فأعدموا أي شخص أدانوه بتهمة التعاون مع السلطات المصرية أو الإسرائيلية، أو حتى عارض وجودهم في المنطقة.
معركة متعادلة حسمها سلاح الطيران
صبيحة الأربعاء الأول من يوليو الجاري، شن تنظيم “ولاية سيناء” أكبر هجوم له حتى الآن، مستهدفاً 15 هدفاً عسكرياً بالتزامن، باستخدام السلاح الثقيل الذي شمل صواريخ مضادة للطائرات وألغاماً أرضية لقطع الإمدادات عن قوات الجيش. كان هجوماً غير مسبوق من حيث الحجم والانتشار الجغرافي، وقد تجاوز في ضخامته الهجوم المتزامن على 10 أهداف أمنية في يناير 2015 وعملية كرم القواديس في أكتوبر 2014. استمرت الهجمات المسلحة ضد القوات المصرية عدة ساعات، قبل أن ترد القوات الجوية المصرية، باستخدام طائرات “الإف 16″، والطائرات بدون طيار (الزنانة)، لإنهاء هذا الهجوم ومعادلة المعركة أخيراً.
قال شهود عيان إن استخدام القوة الجوية كان العامل الحاسم الذي ساعد على صد المهاجمين. اتسمت الضربات الجوية للأهداف بالدقة، فلم يسقط سوى عدد محدود من المدنيين، أضاف صحفيون محليون. وفي صبيحة اليوم التالي، استطاع السكان المحليون إحصاء ثمان مركبات دفع رباعي تابعة للمسلحين، تم تدميرها بالقصف الجوي، علماً أن كل مركبة تحمل عادة على متنها خمسة عناصر مسلحة على الأقل.
ثمة عامل آخر ساعد أيضاً على تخفيض عدد الخسائر بين المدنيين، وهو خلاء المناطق والشوارع التي جرت فيها الاشتباكات وفراغها من المارة في ذلك الوقت بسبب استمرار القتال لفترة أطول من المعتاد. كما أن الاستخدام الدقيق للطائرات بدون طيار (الزنانة) قد حدّ من الأضرار التي لحقت بالمناطق المحيطة بالاشتباكات.
رداً على الاتهامات بوجود حاضنة شعبية محلية لتنظيم “ولاية سيناء”، تقول المصادر المحلية إن أحد السكان المدنيين، ويدعى محمد قويدر، قد قتل على يد مسلحي التنظيم بسبب رفضه السماح لهم باستخدام سطح منزله لاستهداف قسم شرطة الشيخ زويد.
بالنسبة لخسائر تنظيم ولاية سيناء، تشير روايات شهود العيان والسكان المحليين إلى أن المسلحين قد خسروا عدداً هائلاً غير مسبوق من عناصرهم قدروه بالعشرات. ومن ناحية ثانية، فإن المصادر نفسها قد شككت في البيان العسكري الذي أعلن رسمياً أن عدد الجنود الذين قتلوا هو 17 جندياً، ثم رفع العدد لاحقاً إلى 21. وأكدت المصادر أنه على الرغم من عدم معرفة العدد الدقيق للجنود الذين قضوا نتيجة للاشتباكات، إلا أن العدد الحقيقي أعلى مما تم الإعلان عنه على أية حال. ويؤكد مراقبون ومحليون أنه لولا تدخل القوات الجوية في المعركة لكانت خسائر الجيش المصري أكبر بكثير مما هي انتهت إليه معركة ذلك اليوم.
كارثة إنسانية وموقف استراتيجي ضعيف
يبدو أن الفائز الوحيد في هذه المعركة بين الجيش المصري وتنظيم “ولاية سيناء” كانت إدارة الشؤون المعنوية للقوات المسلحة, التي نجحت في استثمار البطولات الفردية لبعض الجنود والضباط في إنتاج فيلم قصير عن المعارك في سيناء، يمكن اعتباره أفضل فيلم دعائي عسكري عن المعارك القتالية في سيناء حتى الآن.
تلقى الجمهور المصري عموماً نتيجة المعركة الأخيرة برضا واحتفاء بأداء الجيش، حيث لم يفر الجنود كما أظهرت تسجيلات لمواجهات سابقة بثها “ولاية سيناء” على شبكة الإنترنت سابقاً. كما أن زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي للقوات في شمال سيناء كان لها أثر إيجابي في رفع الروح المعنوية، بغض النظر عن الانتقادات التي وجهت له بسبب ارتدائه الزي العسكري أو انتشار الحرس الجمهوري حوله وسط القادة العسكريين.
من وجهة نظر عسكرية، فإن المحصلة النهائية لمعركة سيناء الأخيرة هي، في أحسن الأحوال، التعادل. وعلى الرغم من ذلك، فإن الكثيرين من مؤيدي الجيش يزعمون أنه كان نصراً مظفراً للجيش المصري. يعتمد هذا الزعم بالانتصار على حقيقة أن مدينة الشيخ زويد لم تسقط، وليس على التطهير الكامل للقرى الجنوبية التي يسيطر عليها مسلحو التنظيم، وهو الإنجاز الذي لم يتم.
أولئك الذين يحتفلون بهذا النصر المزعوم يقومون بذلك من خلال المقارنة بين أداء الجيش المصري في سيناء وبين سقوط الموصل في العراق، والرقة في سورية، ودرنة في ليبيا. ولكن هذه الحجة لا تحمل في طياتها سوى تطلعات متدنية، لا تقيم وزناً لمبدأ السيادة الأمنية والعسكرية على المنطقة، كما أن هذا الوضع يوحي بقبول الجيش بوجود هذه المليشيات المسلحة في منطقة محدودة يمكن محاصرتها من دون جدية في القضاء على هؤلاء المقاتلين وتطهير المنطقة منهم. علاوة على ذلك، فإن أحداً لا يتحدث الآن عن التحقيق والمساءلة في الإخفاقات العسكرية والأمنية والأخطاء المتكررة التي وقعت، ولا تزال، منذ بداية هذه الحرب قبل عامين.
في أعقاب المعركة، شهدت مدينة الشيخ زويد وما حولها موجة عارمة من نزوح مئات العائلات تحت وطأة الخوف، من دون أي رقابة أو مساعدة حكومية قد تؤمن لهؤلاء النازحين إقامة بديلة مؤقتة أو مأوى في المدن القريبة. فانبرى لعذه الأزمة بعض المتطوعين المحليين في العريش مطلقين عدة مبادرات لإيواء النازحين لتعويض هذا الفراغ الحكومي. وفي وقت لاحق، تحديداً في 8 يوليو الجاري، قامت دورية عسكرية بالنداء على سكان مدينة الشيخ زويد عبر مكبرات الصوت مطالبة إياهم بالبقاء في بيوتهم وعدم هجرها أو النزوح من المدينة، واعدين إياهم بتوفير الحماية.
في هذه الأثناء، ثارت ضجة إعلامية في الصحف المصرية والبرامج التلفزيونية، وحسابات بعض الشخصيات العامة على مواقع التواصل الاجتماعي تدعو للإخلاء القسري، أو حتى “للإبادة”، لتطهير منطقة الاشتباكات من السكان بهدف مساعدة القوات في إنجاز مهامهم. وعلى الجانب الآخر، تخشى العائلات في منطقة الاشتباكات عودة المسلحين للانتقام والأخذ بالثأر من قوات الجيش بأعداد أكبر مع المقاتلين.
أخيراً، فإن الفجوة ما بين الدعاية الرسمية التي تُبث من القاهرة، وحقيقة الوضع على أرض سيناء قد ظهرت بشكل جلي في الانفجار الذي استهدف محطة الكهرباء الرئيسية في مدينة الشيخ زويد، بعد ساعتين فقط من تأكيدات السيسي العلنية على استقرار المنطقة، وبسط سيطرة الجيش على سيناء. ففي يوم زيارة السيسي لمقر قيادة القوات في العريش في 4 يوليو، قتل اثنان من العاملين بشركة الكهرباء، وانقطع التيار الكهربائي تماماً في مدينتي الشيخ زويد ورفح وجنوب قطاع غزة. وفي 9 يوليو، أُصيب 15 عنصراً من أفراد الشرطة في هجوم استهدف حافلتهم غرب العريش، أثناء توجههم إلى وادي النيل لقضاء عطلتهم.
في اليوم التالي، 10 يوليو، أصاب قصف جوي منزلاً مأهولاً بالمدنيين في الشيخ زويد بالخطأ، فقتل أماً وأربعة أبناء أثناء تناولهم الإفطار. وقد وقع ذلك بعد أن شوهدت وسمعت طائرات الإف 16 في سماء المدينة بحسب رواية شهود عيان. ويبدو أن الاستقرار أبعد بكثير مما وعد به السيسي.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية
*كُتب هذا المقال قبل عملية الهجوم البحرية على زورق تابع للجيش بالقرب من رفح المصرية