تشكل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والمملكة الأردنية الهاشمية كتلة سياسية فعالة في المشرق العربي الإسلامي. قبل سنوات قليلة، لم تكن الدول الثلاث مرشحة لتشكيل مثل هذه الكتلة؛ فقد اصطدمت السعودية والإمارات حول مقر البنك الخليجي، المفترض أن يؤسس للوحدة الخليجية النقدية، وحول سعي السعودية الحثيث لقيادة مجلس التعاون.
كما أن الشكوك السعودية في الأردن، التي تعود للحظة تأسيس المملكة، تفاقمت منذ مطلع التسعينات في حرب الخليج الأولى. ولكن التحولات المصاحبة لحركة الثورة العربية في 2011 صنعت تقارباً بين الدول الثلاث، ولدته المخاوف من موجة التغيير التي عصفت بعدد من الدول العربية، بما في ذلك الأردن والمغرب، وصعود التيار الإسلامي السياسي في الدول التي مرت بعملية التغيير. تملك الدول الثلاث فائضاً مالياً هائلاً، في حالتي السعودية والإمارات، وخبرة أمنية ونفوذاً سياسياً، في حالتي الأردن والسعودية، تصل إلى ما هو أبعد من المجال العربي.
تعاونت الدول الثلاث معاً في مجريات الثورة الليبية وتعقيداتها التالية على سقوط نظام القذافي، وكادت أن تنجح في إيصال مرشحها المفضل لرئاسة الحكومة الليبية. وعملت، بدرجات متفاوتة، مع قطر وتركيا على دعم الثوار السوريين، بعد أن وصلت في ربيع 2012 إلى قناعة بضرورة إسقاط نظام الأسد. خلال الشهور القليلة الماضية، ساندت الدول الثلاث عملــية إسقاط الرئيس محمد مرسي في مصر، ونشطت بصورة ملموسة من أجل إسقاط حكومة الائتلاف الثلاثي، التي تقودها حركة النهضة، في تونس.
عندما اندلعت حركة الثورة العربية في 2011، لم تكن الدول الثلاث جميعها في وضع سياسي أو جيو-سياسي سيء. الأردن وحده كان من شهد حركة مطلبية شعبية للإصلاح، وليس للتغيير الجذري، لم يكن من الصعب ببعض الحكمة وبعد النظر مقابلتها في منتصف الطريق. كما إن حركات التغيير والثورة العربية، من تونس وليبيا إلى مصر واليمن، لم تحمل أي عداء خاص نحو أي من الدول العربية الأخرى، سيما دول الخليج؛ وقد عملت أنظمتها الجديدة، سواء الانتقالية الأولى أو الانتقالية المنتخبة، على بناء علاقات وثيقة بكافة الدول العربية وبدول الخليج، وعلى رأسها السعودية، بصورة خاصة. ولكن ذلك لم يحرر الدول الثلاث من الخوف، الخوف من فكرة التغيير، الخوف من الفكرة الديمقراطية، والخوف من التيار الإسلامي السياسي.
هذا الخوف، ولا شيء غيره في الحقيقة، دفع الدول الثلاث إلى التقارب، ومن ثم إلى تشكيل محور سياسي، نشط وفعال، يكاد يعيد المجال العربي إلى ما أسماه المرحوم مالكوم كير، في كتاب شهير له، بالحرب الباردة العربية. توحي النظرة السريعة للخارطة العربية السياسية بأن الكتلة الثلاثية حققت عدداً من الانتصارات المتتالية، وأنها توشك أن تعيد رسم هذه الخارطة على صورتها بالفعل. ولكن بعضاً من التأمل سرعان ما يوصل إلى نتائج مخالفة، سيما على صعيد توازنات القوى الإقليمية والبيئة الجيو-سياسية المشرقية. دفعت محاولات دول الكتلة الثلاث للسيطرة على القرار السياسي ليبيا ما بعد الثورة إلى حالة من عدم الاستقرار، بعد أن منعت القوى التي صنعت الثورة وخاضت غمارها من المشاركة الفعالة في النظام الجديد. وإن صحت التقارير التي تشير إلى مساندة الدول الثلاث لمشروع تقسيم ليبيا، وفصل إقليم برقة الغني بالمصادر النفطية، فإن ليبيا مرشحة لمزيد من عدم الاستقرار. في مصر وتونس، وبغض النظر عن الجدل حول الدور الذي لعبته دول الكتلة الثلاثية في مواجهة قوى الإسلام السياسي، فإن البلدين مرشحان لمرحلة مديدة من عدم الاستقرار.
بمعنى أن لا ليبيا ولا تونس، ولا مصر، الأهم والأكبر، يمكنها أن تلعب دوراً فعالاً في موازين القوى الإقليمية، لا لصالح الكتلة الثلاثية ولا لغيرها. في الحقيقة، أن استمرار حالة عدم الاستقرار في مصر، وتدهور أوضاع تونس، سيحمل البلدين أعباء اقتصادية ومالية عامة ثقيلة الوطأة، يترتب عليها أن تقوم دول الكتلة الثلاثية الثرية بالمشاركة في حمل هذه الأعباء. ما يجري في الجوار المشرقي العربي، يوحي بمخاطر أكبر.
بنت الدول الثلاث مقاربتها للمسألة السورية على أساس من مشاركة قطرية تركية وثيقة، وتصاعد الانخراط الغربي، والأميركي، بصورة خاصة. الانخراط الغربي الأميركي أوشك أن يتحقق بالفعل عندما تورط النظام السوري في الاستخدام الدموي والوحشي للسلاح الكيماوي في ريف دمشق في أغسطس/ آب الماضي، وأعلنت بريطانيا وفرنسا، ومن ثم الولايات المتحدة، عزمها معاقبة النظام. للحظة، بدا أن دول الكتلة الثلاثية، بنفوذها الأسطوري في مجلسي الشيوخ والنواب الأميركيين، والمساندة الإسرائيلية المعلنة، باتت قوس قابين أو أدنى من إحداث متغير كبير في موازين القوى على الأرض السورية بقوة القصف الأميركي المرتقب.
لم تر دول الكتلة الثلاثية الانسحاب الأميركي الملموس من المشرق، والمستمر بلا تردد منذ بداية ولاية أوباما الأولى، ولا تجنب واشنطن المرضي للتورط في الأزمة السورية منذ أيامها الأولى، ولا توكيد واشنطن على أن الضربة المخططة للنظام السوري، إن وقعت، ستكون محدودة وقصيرة إلى حد كبير. ولذا، ما إن قررت إدارة أوباما الذهاب للخيار التفاوضي، على أساس من تجريد نظام دمشق من ترسانة سلاحه الكيماوي، حتى أصابت دول الكتلة الثلاثية خيبة أمل كبيرة، وسيطر عليها شعور فادح بالهزيمة.
لا تتعلق مشكلة أزمة نهاية أغسطس/ آب بالتدخل أو عدم التدخل الأميركي، لأن الولايات المتحدة لم تكن طرفاً أصلاً في سورية، ولن يغير لجوؤها للتفاوض الكثير في ميزان قوى الصراع على سورية. المشكلة كانت في تصور دول الكتلة الثلاثية المبالغ فيه لطبيعة علاقتها بالولايات المتحدة، وإمكانية الضغط على، أو استخدام الأخيرة، لخدمة مصالحها الإقليمية، حتى عندما لا ترى واشنطن أن ثمة مصلحة لها.
بيد أن سياسة الكتلة الثلاثية في سورية تواجه صعوبات أخرى، لا تقل دلالة، على صعيد تحقيق هدفها الاستراتيجي في سورية. فمنذ بداية انخراطها في الشأن السوري، عملت الدول الثلاث، سيما السعودية، ليس فقط لمساعدة الشعب والثوار السوريين على الانتصار، ولكن أيضاً لامتلاك القدرة على تحديد من سيحكم سورية بعد انهيار نظام الأسد.
في الآونة الأخيرة، نجحت الجهود السعودية في إيصال رئيس موال للائتلاف الوطني، الهيئة السياسية التي تمثل قوى المعارضة السورية. كما استطاعت كسب ولاء هيئة أركان الجيش الحر، التي يفترض أن تمثل قيادة الثورة السورية المسلحة. ولكن الحقيقة، أنه بخلاف هذين الموقعين، لم تستطع الكتلة الثلاثية تحقيق أية مكاسب ملموسة أخرى، لا في أوساط القوى السياسية الرئيسة التي تشكل الائتلاف الوطني، ولا في صفوف كتائب وألوية الثوار ذات الفعالية الأكبر على الأرض، بما في ذلك مجالس المحافظات العسكرية للجيش الحر. وبالرغم من قبول قوى الائتلاف برئيسه، وعدم رغبة معظمها في مواجهة نفوذ دول الكتلة الثلاثية، فإن رئيس الائتلاف يبدو وكأنه أقرب لشخصية رمزية منه إلى رئيس فعلي. أما علاقة الألوية والكتائب المسلحة بهيئة الأركان، فلا تتعدى ضرورات التمويل والتسليح.
خلال سبتمبر/ أيلول، وبينما لم تزل ذيول أزمة الكيماوي السوري تخيم على المناخ الإقليمي المشرقي، شهد مقر الأمم المتحدة بعضاً من الدراما الدبلوماسية غير المسبوقة. استقبلت الجمعية العامة للأمم المتحدة في اجتماعها السنوي الرئيس الإيراني الجديد، د. روحاني، كما استقبلت الرئيس الأميركي أوباما. في كلمته، واصل روحاني المساق التصالحي مع الغرب والولايات المتحدة، وأطلق إشارات واضحة على استعداد بلاده للمساومة على البرنامج النووي، لم تجد معارضة ملموسة من آية الله خامنئي، المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية وصاحب القول الأخير في قرارات إيران الاستراتيجية.
وبالرغم من واقعية خطاب أوباما، والشكوك التي طرحها في مصداقية الموقف الإيراني، أبدى الرئيس الأميركي استعداد بلاده لتبني مقاربة جديدة في الموقف من إيران. هذه بالطبع لحظة فريدة في تاريخ العلاقات الأميركية الإيرانية منذ 1979. فمن جهة، تعاني إيران من ضغوط اقتصادية ثقيلة الوطأة، ولدتها العقوبات الأميركية والغربية المتنوعة، كما تفيد تقارير بأن البرنامج النووي يواجه صعوبات، سيما فيما يتعلق بآلية التسليح، تتطلب سنوات ربما لحلها.
ومن جهة أخرى، ونظراً لتغيير في أولويات الولايات المتحدة الاستراتيجية، وللتعقيدات التي تحيط بمسألة إيران، بنت إدارة أوباما حساباتها على أساس تجنب الخيار العسكري في التعامل مع الملف النووي الإيراني، ما أمكن. يوفر هذان الشرطان ظروفاً مواتية لحل أزمة الملف النووي، وإحداث اختراق ملموس في العلاقات الأميركية الإيرانية. ثمة صعوبات بالتأكيد في الطريق، قد لا تستطيع الدولتان تجاوزهما. ولكن المهم أن لا إسرائيل نتانياهو، ولا دول الكتلة الثلاثية، وهي الجهات التي ترفض نهج إدارة أوباما التفاوضي، تستطيع لعب دور معطل في هذا المسار. فشل إيران وأميركا في التوصل إلى حل تفاوضي، سيكون مرجعه عجز إحداهما، أو كليهما، عن التضحية ببعض شروطهما المسبقة.
منذ بداية العقد الأول لهذا القرن، اعتبرت إيران، وليس إسرائيل، مصدر التهديد الرئيس لدول الكتلة الثلاثية، بعد أن أفادت إيران من فراغ القوة الذي أحدثته سياسة الحرب قصيرة النظر التي تبنتها إدارة بوش الابن. وحتى قبل تفاقم الأزمة اللبنانية الداخلية، واندلاع الثورة السورية، وتحولها إلى أزمة إقليمية ودولية، ولد ثمة توجه عربي خليجي للتقارب مع تركيا، وإفساح المجال لتوازن قوى إقليمي جديد، تلعب تركيا دوراً فعالاً في مجرياته. اليوم، وبعد أن تسببت سياسة دول الكتلة الثلاثية في دول الثورة العربية في خلق فجوة ثقة عميقة مع أنقرة، تبدو تركيا أقرب إلى إعادة النظر في سياستها الإقليمية، منها إلى الاستجابة لمتطلبات العلاقة مع دول الكتلة الثلاثية.
إن وقع تقارب تركي إيراني، فسيكون على دول الخليج مواجهة الضغوط الإيرانية، وتعقيدات العراق وسورية ولبنان، منفردة؛ الضغوط والتعقيدات التي قد تزيدها سياسات أوباما تفاقماً. وهذا في حد ذاته كابوس إقليمي لم يكن في الحسبان.