ترجمة وتحرير نون بوست
“القومية لن تكون قوة فعّالة في سياسات القرن الـ21 كما كانت في القرن الـ20″، قال إريك هوبسباوم، المؤرخ البريطاني الماركسي الراحل.
ولكن الوقت والظروف أثبتا أن هذا البيان كان متسرعًا، وليس مرتكزًا على التطورات التي طرأت في الأجزاء الأولى من القرن الـ21، كون القومية عادت مرة أخرى إلى ساحة الأحداث؛ صعود الأحزاب القومية في الانتخابات التركية، والتطورات الأخيرة في الجغرافيا السياسية الكردية الأوسع في الشرق الأوسط، توضح أن القومية كإطار سياسي، أيديولوجي، ووجداني، تستعيد قوتها.
ولكن، لماذا أخطأ الباحث البارز في الأمور القومية في الحكم على مستقبلها؟ يقدم باحث بارز آخر الجواب، فالباحث تيتسونوري كويزومي، يميز ما بين القومية كأيديولوجية حداثية، والقومية باعتبارها حالة وجدانية أو عاطفية، الباحثون الذين يدّعون أن القومية تفقد أهميتها، يبدو أنهم مخطئون بافتراضهم بأن القومية هي ضرورة وثمرة للحداثة، ومن هنا يحكمون بأنها ستفقد أهميتها في عصور ما بعد الحداثة.
قوة القومية
افتراض أن القومية ضرورة وثمرة للحداثة، يقلل من قيمة وقوة القومية باعتبارها حالة عاطفية، كما أن هذا الافتراض يحمل في طياته فكرة أن القومية هي في المقام الأول ظاهرة غربية، وبالتالي، ينبغي أن يتم فهم ولادتها وزوالها في سياق التحولات الاجتماعية والسياسية التي تجري في الغرب.
في القضية الكردية تحوز القومية، سواء بشكلها الأيديولوجي أو العاطفي، قوة كبيرة، وكشعب اضطلع في عمليات بناء الأمة والدولة، وخاصة في كردستان العراقية والسورية، من الواضح أن القومية كضرورة وثمرة للحداثة، لم تأخذ مجراها الطبيعي بالنسبة للأكراد؛ فمحاولة تجاوز العلاقات القبلية، الطائفية، والفئوية، بغية إقامة علاقات قومية موحدة، كما أن عمليات صياغة الدولة وبناء الجيش، جميعها تسلتزم استمرار القومية كأيديولوجية، وفي الوقت الذي يستمر فيه المجال العام الكردي المشترك بالظهور في الشرق الأوسط، والذي من المرجح أن يحفز ولادة سياسة كردية مشتركة، توفر القومية الإطار الفكري والسياسي الوحيد القادر على جمع الأكراد من جميع البلدان الأربعة المختلفة.
مجتمع العاطفة المشتركة
في الواقع، هذا المجال العام الكردي المشترك تتم صياغته باعتباره نتيجة للقومية بصفتها أيديولوجية وحالة عاطفية على حد سواء؛ فالحزن العابر للحدود الذي ينجم عن كفاح الأكراد ضد داعش في كل من العراق وسورية، يخلق أيضًا المجال العام الكردي كمجتمع تجمعه العواطف والمشاعر المشتركة.
قال الفيلسوف أرنست رينان، في القرن التاسع عشر، “الأمة هي استفتاء يومي”، بمعنى أن الرغبة في العيش المشترك يجب أن تتجدد كل يوم، وفي وقتنا الحاضر، يمكن للمرء أن يقول إن قتلى الأكراد في المعارك، أو أخبار انتصاراتهم في كردستان السورية والعراقية، التي تصل إلى تركيا وإيران وكردستان العراق، هي بمثابة إعادة إعمار يومي للقومية الكردية كمجتمع عاطفي.
إن اقتران القومية باعتباراتها العاطفية والأيديولوجية، يجعل القومية الكردية قوة فعالة في السياسة الحالية والمستقبلية الجارية في المنطقة، حيث تواجه هذه القوة تحديًا إسلاميًا، علمًا أنه تاريخيًا، كانت القومية الكردية – بلا ريب – علمانية في توجهاتها، لدرجة أنها انتهجت سياسات صارمة مكافحة للتدين، مما أدى إلى نفور وإعراض الأكراد المتدينين عن دعم الحركات القومية الكردية.
الأنماط الانتخابية
الأنماط الانتخابية في الجزء الكردي من تركيا، تساعد على توضيح هذا النمط الأيديولوجي الثنائي ما بين الأكراد المتدينيين والأكراد القوميين؛ فالشريحة الكردية التي تعطي أولوية للدين على حساب القومية، كأساس رئيس لصياغة مفهوم الهوية الكردية، صوتوا لصالح الأحزاب المحافظة أو الإسلامية، أما الشرائح الكردية التي تصب اهتمامها على القومية الكردية كمصدر أساس لصياغة هويتها، صوتت للأحزاب السياسية الموالية لقضية الأكراد، وبالتالي، كانت المنافسة منحصرة ما بين القوميين الأكراد والأحزاب الإسلامية في عموم تركيا.
النموذج السياسي العلماني أو المناهض للدين ضمن الحركة الوطنية الكردية، خضع لبعض التغييرات في أواخر التسعينات وأوائل الألفية الحالية، فحزب العمال الكردستاني (PKK)، أعلن أنه تخلى عن منهجه الماركسي الأرثوذكسي (المتشدد)، وبدأ تدريجيًا ينتهج سياسة تسعى للتقارب مع الأكراد المحافظين والمتدينيين.
وذات هذا المنهج المتطور اعتنقه الجناح السياسي للحركة الكردية، حيث أصبح أكثر استيعابًا للمطالب الإسلامية، ورشح العديد من الشخصيات الدينية للسلطة في الانتخابات التركية الأخيرة، مما خلق قدرًا من التقارب بين الأكراد المحافظين والأكراد القوميين، وعزز ووسع القاعدة الاجتماعية للقومية الكردية.
التحديات السياسة الكردية
متانة هذا التقارب لم يتم اختبارها بعد، نظرًا لحقيقة أن التغيير في نهج الحركة الكردية تجاه الدين، هو تغيير شكلي أكثر من كونه عمقي وجوهري.
ولكن، المشهد السياسي الكردي حاليًا يتأهب لمواجهة تحديات مطردة، ليست قادمة من الأحزاب الإسلامية في عموم تركيا، بل من القاعدة الاجتماعية الإسلامية للأحزاب الكردية، وربما من حركة كردية أخرى تتبنى لغة الإسلام كمنهج لها، وهنا يكمن التحدي الحقيقي للحركة الكردية؛ ففي الوقت الذي لم تتمتع به القومية الكردية في أي وقت مضى بقوة وتأثير بعيدي المدى كما هي عليه في الوقت الراهن، وفي الوقت الذي لم تواجه به هذه القومية تحديًا إسلاميًا كما هو الحال عليه الآن في المنطقة، تتجه السياسة الكردية في تركيا لاختيار الانعطاف نحو القوى اليسارية في عموم تركيا.
يزعم البعض أن نتائج الانتخابات العامة الأخيرة في تركيا، والتي حقق فيها حزب الشعوب الديمقراطي الكردي نجاحًا انتخابيًا مذهلًا، بحصوله على أكثر من 13% من أصوات الناخبين، تؤكد على صحة وحكمة التغيير المنهجي في البرنامج السياسي الكردي، ولكن تقييم النتيجة بهذا الشكل هو غير صحيح، حيث اعترف العديد من المراقبين المخضرمين أن نسبة لا تقل عن 10% إلى 11% من الـ13% التي حصل عليها حزب الشعوب الديمقراطي، جاءت من المواطنين الأكراد، وغالبية هؤلاء الناخبين هم من الفئة الاجتماعية المحافظة، وقسم كبير جدًا منهم كان يصوّت، تقليديًا، للأحزاب السياسية الإسلامية في تركيا.
التقرب من الأكراد المحافظين
عمل النهج الجديد لحزب الشعوب الديموقراطي الكردي على التقرب من الأكراد الإسلاميين على أرض الواقع، بحيث أصبح هذا الحزب أكثر تمثيلًا للأكراد، وهذا ما عمل أيضًا على تقويض وجود حزب العدالة والتنمية وأهميته ما بين الأكراد المحافظين.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن القول إن أغلب الخصوم الذين يواجههم الأكراد في المنطقة، هم من أتباع أحد فروع التيارات الإسلامية، والذين تلقى رسالتهم صدى كبيرًا في قطاعات متزايدة من القاعدة الاجتماعية الكردية، وهذه الرسالة يمكن مواجهتها فكريًا، بشكل أكثر فعالية من خلال اللجوء إلى الخطاب الإسلامي أيضًا.
هذا الواقع يدل على التوتر المتزايد الحاصل ما بين مطالب القاعدة الاجتماعية لحزب الشعوب الديموقراطي، والتمحور السياسي لهذا الحزب في الآونة الأخيرة؛ فحزب الشعوب اتجه قدمًا لاعتناق سياسات اليسار، في الوقت الذي كان يحتاج فيه لأن يكون أكثر تمثيلًا لتطلعات الشعب الكردي، الأمر الذي يتطلب منه ضخ برنامجه السياسي بمطالب وتوجهات دينية ليتقرب ويحقق تطلعات قاعدته الاجتماعية بشكل أكبر .
إذن، في الوقت الذي تتحرك فيه النخبة السياسية الكردية لحزب الشعوب الديموقراطي لتحويل الحزب إلى حزب يساري يعمل في عموم تركيا، تسعى القاعدة الاجتماعية والسياسية الكردية جاهدة لإبقاء الحزب كرديًا ما أمكن، ونتيجة هذا التوتر هي التي ستحدد المسار السياسي المستقبلي، ليس بالنسبة لحزب الشعوب الديموقراطي فحسب، بل أيضًا لحزب العمال الكردستاني.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية