هذا السيل من التشريعات في الدولة المصرية حاليًا لا يصدر عن برلمان شعبي منتخب وإنما يصدر عن رغبة رجل واحد في واجهة السلطة الآن صعد إلى سدة الحكم بعد انقلاب عسكري قاده بنفسه في الثالث من يوليو عام 2013 على الرئيس السابق محمد مرسي بعد مرور عام من فترته الرئاسية عقب فوزه في أول انتخابات رئاسية بمصر بعد ثورة يناير، ليضع عبدالفتاح السيسي خريطة مستقبلية للبلاد كان أحد أهم معالمها إنجاز إجراء انتخابات تشريعية تفضي إلى تكوين برلمان يقوم بمهمة التشريع.
ما حدث بعيدًا عن كافة المتلاحقات السياسية في البلاد كان عكس ما ورد في وثيقة الثالث من يوليو بعد تجميد هذا البند من خارطة الطريق التي أعدها السيسي للإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي وبالدستور الذي أُقر في عهده وكذلك بمجلس الشورى، في حين تم إجراء تعديلات دستورية سريعة بمباركة الجيش لتوضع السلطة التشريعية بين أيدي الرئاسة المؤقتة ممثلة في “عدلي منصور” ومن ثم الاحتفاظ بها إلى أن سُلمت إلى يد الجنرال عبدالفتاح السيسي يدًا بيد.
منذ ذلك الحين يبحث معسكر الثالث من يوليو عن الانتخابات التشريعية التي وعودا بها لكن الرئاسة المصرية المتشبثة بالتشريع لديها من الحجج الكافية حتى الآن لتبرير عدم إجرائها بعد تأجليها لمدة ثلاث مرات متتالية وأصبحت الآن الدولة بلا برلمان بعد أن كان مقرر أن تنعقد الانتخابات البرلمانية خلال ستة أشهر من إقرار التعديلات الدستورية التي أعقبت الانقلاب العسكري.
السيسي والإسراف في استخدام سلطة التشريع
الجنرال السيسي يجمع الآن بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية لحين انتخاب برلمان جديد، وخلال فترة العام الأول من حكمه قام باستخدام هذه السلطة أكثر من 300 مرة لإصدار قوانين دون عرضها على أي جهة أخرى، فيما استخدم سلفه “عدلي منصور” هذه السلطة عقب الانقلاب 40 مرة ليصل إجمالي التشريعات التي أصدرت عقب الانقلاب العسكري إلى ما يزيد عن 350 قانون حتى الآن دون أن يعرضوا على أي جهة تشريعية، ما يجعل السيسي بهذا الوضع يسجل رقمًا قياسيًا في استخدام هذه السلطة من قبله كرأس لسلطة أخرى وهي “السلطة التنفيذية”.
هذا الأمر نحى بالبعض ليؤكد أن النظام الحالي يُفضل بقاء الوضع كما هو عليه ليحتفظ بالسلطة التشريعية أطول فترة ممكنة وذلك لاستخدامها في تصفية حساباته مع خصومه من داخل الدولة وكذلك لاستخدامها في توطيد أركانه أكثر، فآخر ما صدر من القوانين كان قانون الهيئات الرقابية الذي أعطى الحق لرئيس الجمهورية إعفاء رؤساء وأعضاء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية من مناصبهم، نشر هذا القرار في الجريدة الرسمية يوم السبت بالرغم من كونه عُطلة رسمية في البلاد.
فيما رأى بعض الخبراء القانونيين أن هذا القانون يشوبه عوار دستوري، فبما أن الدستور المصري ينص في مادته 216 على أن تعيين رؤساء هذه الأجهزة يكون بموافقة مجلس النواب، إذن فمن يملك عزلهم هو من يعينهم، علاوة على أن هذا القانون ليس من قوانين الضرورة التي أتاحت المادة 156 من الدستور إصدارها من قبل رئيس الجمهورية في غياب البرلمان.
وقد حدد القرار أربع حالات يجوز فيها لرئيس الجمهورية إعفاء رؤساء تلك الهيئات، من بينها فقدان الثقة ووجود اتهامات تمس سلامة البلاد وهي حالات مطاطة لا تخضع لصدور حكم قضائي أو إجراء تحقيقات بها، بل تُرك الأمر كله لسلطة رئيس الجمهورية في تقييم الدﻻئل المعروضة عليه فيما يخص رؤساء هذه الجهات.
وجهت اتهامات للسيسي بأن هذا القانون هدفه عزل رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات المستشار هشام جنينة، لكن آخرين علقوا على الأمر بأن هذه الرغبة لن تحقق للنظام هذه المرة بالرغم من تفصيل هذا القانون، فالمادة ٢٥ من قانون الجهاز المركزي للمحاسبات تنص على عدم قابلية عزل رئيسه تحت أي ظرف، وهو قانون خاص بالجهاز، والقوانين الخاصة تقيد العامة، فإذا صحة رغبة الرئاسة في عزل رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات فإنه كان من الأولى أن يتم تعديل قانون الجهاز نفسه.
من يتك على هذه الفرضية يرى أن المستشار هشام جنينة يحدث إزعاج لبعض ملوك الطوائف في النظام حيث يُصر جنينة على تطبيق الحد الأقصى للأجور على القضاة وقد دخل في صراع من وزير العدل الحالي المستشار أحمد الزند بسبب هذا الأمر، ما دفع البعض لاتهامه بالانتماء لجماعة الإخوان المسلمين وقد رفعت ضده عدة قضايا في هذا الصدد، كذلك لا يكل هشام جنينة عن الحديث عن بعض ملفات الفساد داخل مؤسسات الدولة وهو ما يراه البعض سببًا أساسيًا في رغبة النظام التخلص منه.
السيسي وتأميم السلطة القضائية
الأمر لم يقتصر عند هذا الحد لدى نظام السيسي من استخدام الترشيع بإفراط لتصفية الحسابات بل امتد إلى العبث بالقوانين المنظمة للتقاضي تحت دعاوى قوانين مكافحة الإرهاب وهو ما يخل بحق الإنسان في التقاضي، إلى جانب إنشاء محاكم خاصة لفئة من المواطنين وهو ما يهدر حقهم في التقاضي أمام قاضيهم الطبيعي بعد الموافقة على تحويلهم لمحاكم أمن الدولة العليا والمحاكم العسكرية.
بهذه الصورة ثمة نوع من السطو على السلطة القضائية لتأميمها لصالح النظام بعد أن اعتبر السيسي أن القوانين أداة تغل العدالة، وبهذا يعطي لنفسه الحق في الإطاحة بكل القوانين وتعديلها وإنشاء غيرها لإقرار عدالته الخاصة، بعد عدم اعترافته بعدالة القوانين.
وعلى جانب آخر يرى الرجل أن لديه الحق في الإفراج عن المتهمين الأجانب دون أن يأخذ القانون مجراه في حقهم، وهو قانون تسليم المتهمين الأجانب إلى بلدانهم، والذي منح السيسي حق تسليم المتهمين الأجانب أو المحكومين بالسجن لبلدانهم لمحاكمتهم على أرضها، أو لقضاء العقوبة فيها.
أما عن عسكرة القضاء فقد أمر السيسي حكومته بتعديل قانون القضاء العسكري وذلك بإضافة اختصاصات بينها محاكمة المدنيين في قضايا ما تسمى بـ “الإرهاب” والقضايا التي تتعلق بالاعتداء على المرافق والممتلكات العامة وإتلاف وقطع الطرق، وهذا التعديل المقصود به محاكمة خصومه السياسيين المعارضين له في الشارع.
القرارات المصيرية التي اتخذت في غياب البرلمان
ومن أبرز القرارات المصيرية التي اتخذها السيسي دون أي مرجعية هو توقيع اتفاقية سد النهضة الإثيوبي بين مصر والسودان وإثيوبيا، والتي تنص على عشرة مبادئ أساسية تكون ملزمة بعد تصديق برلمانات الدول الثلاث عليها، ومع غياب البرلمان المصري فإن السيسي يملك صلاحية التشريع وقد استخدمها في هذا الصدد بالفعل.
هذه الوثيقة التي وقع عليها السيسي بديلا عن البرلمان تعد بمثابة اعترافًا دوليًا بسد النهضة، ويراها البعض تفريطًأ في حقوق مصر التاريخية في مياه النيل التي تضمنها اتفاقية 1902 التي تحظر على إثيوبيا بناء سدود على النيل، مما يعني أن مثل هذا التوقيع الذي تم في غياب البرلمان سوف يوقع مصر في كارثة مائية خلال سنوات.
وكذلك كان قرار المشاركة في عاصفة الحزم دون أي رقابة والذي اتخذه السيسي والجيش مستغلا غياب البرلمان ووقوع السلطة التشريعية في يده، وهي قرارات خوض حرب وبالطبع هي مصيرية في مستقبل البلاد، لكن الأمر بدا وكأنه يروق للسيسي بشكل شخصي.
إحصائيات الفوضى التشريعية للسيسي
بلغ عدد القرارات الجمهورية التي أصدرها خلال عام حوالي 82 قرارا جمهوريا ما بين تشكيل لجان أو تعديلات على قوانين أو قرارات بقوانين أو تعيينات أو تخصيص أراض أو تفويض صلاحيات، أي ما يصل إلى إصدار قرار جمهوري كل أسبوع خلال مدة توليه.
من جانبها، نشرت صحيفة “الجارديان” البريطانية تقريرًا لمراسلها في القاهرة بعنوان “بين كل طرفة عين السيسى يسن قوانين الاستبداد والقمع”، أشارت فيه إلى أن الوتيرة السريعة التى صدرت فى ظلها القوانين والتشريعات فى عهد السيسى تفوق شهية التشريع التى شهدتها مصر فى عهد أنور السادات وحسنى مبارك، كما أنها تمثل تلك القوانين التى صدرت فى أعقاب سقوط النظام الملكى فى مصر فى عام 1952.
فقد صدر ما يزيد عن 480 قرارًا وقانونًا في أقل من عام على رئاسة السيسي، وفقًا لما أكدته دراسة أصدرها المركز الوطني للاستشارات البرلمانية، هذه القرارات أتت بين 16 قرارًا اقتصاديا، و50 قانون شملت عفوا عن سجناء، وتعديل قوانين، و35 قرارا دستوريًا، كما شملت قرارات السيسي 12 تغييرا أو تعيينا لعدد من القيادات العسكرية، و14 تغييرا بين عمداء الكليات، فضلا عن تعيينات السيسي في الهيئات القضائية، وشملت القوانين التي أطلقها السيسي 114 قرارًا بقانون خاص بالموازنة العامة، وطبقا للدراسة فإنه منذ تولى السيسي الحكم حتى ديسمبر من العام الماضي، أصدر 263 قرارًا بقانون، وهو ما يعادل 3 قرارات كل 48 ساعة.
وقد أصدر كذلك المرصد المصري للحقوق والحريات تقريرًا يتحدث فيه عن استمر إصدار تشريعات وقوانين وقرارات مخالفة للحريات العامة وحقوق الإنسان ومخالفة للدستور المصري في الفترة التي تصدر فيها السيسي السلطة في مصر، وأصبحت القرارات والقوانين تصدر باسمه.
السيسي يريد تأميم البرلمان لصالحه قبيل انتخابه
بالطبع يرى السيسي أن للبرلمان فائدة ديكورية في نظامه ويراه أيضًا أداة يستخدمها الغرب في ابتزازه بدعوته باستمرار لإنجاز انتخابات برلمانية وهو ما سيدفع بالسيسي حتميًا لإجراء الانتخابات، لكن الحقيقة أن السيسي لن يجري هذه الانتخابات إلا بعد التأكد تمامًا من تأميم سلطة البرلمان لصالحه، ليمارس مهمة التشريع من خلفهم، والسبب الرئيس في تأخر البرلمان هو عدم مقدرة السيسي على ضمان هذا الأمر.
فقد دعى السيسي مرارًا وتكرارًا الأحزاب الموالية له لتكوين قائمة موحدة لخوض انتخابات البرلمان وبالطبع سيشرف على تنظيمها الأجهزة الأمنية التي تدخل في كل كبيرة وصغيرة في نظام السيسي، لكن حتى الآن هذه المحاولات بآت بالفشل لأن السيسي ليس لديه حزب يدعمه وهي ميزة في مواضع كثيرة بالنسبة له ولكنه عيب في هذا الموضع بالتحديد.
الأجهزة السيادية تحذر السيسي من البرلمان لأنه قد يأتي على غير هواه عن طريق تحالفات ضده من رجال أعمال الدولة العميقة، وهو ما سيحتم مشاركتهم السيسي في الحكم وبالطبع الرجل يرفض ذلك تماما لأنه لم يتعود منذ عام كامل على مثل هذا الأمر، وهو السبب الرئيسي في تأخير إجراء هذه الانتخابات، حتى توفير ضمانة أن هذا البرلمان سيصبح امتدادًا لرغبة السيسي ليس أكثر ولا أقل، بذلك يسعى السيسي لتأميم السلطات الثلاث في مصر بعد الانقضاض على السلطة التنفيذية وترويض السلطة القضائية، فلم يتبقى إلا الاحتفاظ بالسلطة التشريعية سواء في يده مباشرة أو عن طريق برلمان يكون بمثابة ظل له.