ترجمة وتحرير نون بوست
ديفيد فينشنزيتي هو الآن تاجر أسلحة الكترونية، يتعامل مع بعض أكثر الأنظمة الديكتاتورية والقمعية في العالم، ولكن قبل عشرين عامًا، كان فينشنزيتي على الجانب الآخر من المعركة، حيث كان يعمل كمشفر إنترنت يهدف لحماية الخصوصية، ويخترع أدوات إلكترونية بغية التغلب على المخترقين “الهاكرز”، كما عاش ولعب دورًا في ذات العالم الناشئ على الإنترنت الذي كان يقبع فيه جوليان أسانج، والصحفي المخترِق جاكوب أبلباوم، ومجموعة من ثوار الإنترنت الذين يواصلون تغيير عالمنا حتى هذا اليوم.
الرحلة التي أوصلت فينشنزيتي من كونه ناشطًا يعمل في مجال الأمن السيبراني إلى مليونير مرتزق، هي حكاية غريبة، حكاية أثارت حفيظة أقرانه وتسببت بغضبهم.
فينشنزيتي، 47 عامًا، هو الرئيس التنفيذي الحالي لشركة هاكينغ تيم، وهي شركة تكنولوجيا إيطالية، مشهورة ببيع الأسلحة الإلكترونية الهجومية للعديد من الحكومات الدولية، والتي يتم استخدامها لاستهداف الصحفيين والناشطين في مجال حقوق الإنسان، والمواطنين العاديين.
ولكن شركة التكنولوجيا الإيطالية ذاتها، كانت هدفًا للاختراق في ليلة الأحد الماضي، حيث أدت عملية الاختراق الأخيرة إلى صدور تسريبات فضحت العلاقات التجارية الوثيقة ما بين فينشنزيتي والحكومات الديكتاتورية والقمعية في مختلف أنحاء العالم، مثل روسيا والسودان، كما تتعامل الشركة مع حكومة الولايات المتحدة، وعشرات العملاء الحكوميين الآخرين، وفقًا للوثائق التي زُعم أنها انتزعت من أنظمة هاكينغ تيم.
جميع عمليات هاكينغ تيم تقريبًا تم كشفها أمام أعين العالم أجمع، من خلال عملية الاختراق والتسريب الأخيرة، ولم يلقَ فينشنزيتي أي تعاطف للمصيبة التي انقضت على شركته، بعد أن قام أقرانه في مجال الأمن السيبراني بفضح جميع تعاملات الشركة اللاأخلاقية، والكثير من قراصنة الإنترنت يأملون لفينشنزيتي أن “يحترق في الجحيم”، على حد قولهم.
تصرفات فينشنزيتي اليوم، المتمثلة ببناء أدوات تستخدمها الحكومات لاختراق أجهزة المدنيين، تقف في تناقض صارخ وغريب مع المجتمع الإلكتروني الذي نشأ وترعرع فيه، والذي كان قائمًا على حماية الخصوصية بدلًا من اختراقها.
في عام 1992، وبينما كان يعمل على تصميم برنامجي كمبيوتر في جامعتين بمدينة ميلان في إيطاليا، استطاع فينشنزيتي، الذي كان يبلغ من العمر حينها 24 عامًا، كتابة شيفرة ضمنها في برنامج قادر على كشف التلاعب بالملفات، بحيث تعمل هذه الشيفرة على طرد المتسللين والمخترقين الذين قد يعملون على تحميل برامج خلفية قادر على كسر جميع الإجراءات والاحتياطات الأمنية في الجهاز الكمبيوتر الهدف، وطلب حينها المساعدة لأكثر من مرة من الخبراء الأمنيين المتواجدين في منتديات يوزنت (Usenet)، قبل أن ينشر أخيرًا المنتج النهائي بعد بضعة أشهر.
“إنه برنامج يهدف لجعل التلاعب بالملفات وأعمال القرصنة السيئة غير فعالة” يوضح فينشنزيتي غاية البرنامج الذي كان يشفره في منشور مؤرشف على منتديات يوزنت.
المفارقة هنا هائلة، كون فينشنزيتي الصغير بالسن، كان يشفر برامجًا ربما قد تكون مخصصة للتغلب على البرامج التي سيكتبها فينشنزيتي في وقت لاحق من عمره.
روّج فينشنزيتي واستضاف واستخدم تشفير PGP منذ أكثر من عقدين، وهو الوقت الذي كانت فيه هذه التكنولوجيا جديدة وواعدة وقوية للغاية، لدرجة أنه كان من المحتمل أن يتم حظرها، ولكن البيانات التي اُستخرجت من أنظمة هاكينغ تيم هذا الأسبوع، تُظهر أن فينشنزيتي بالكاد شفّر أي ملف على الإطلاق.
فينشنزيتي كان مشفر برامج يعمل في مجموعة تسمى (cypherpunk)، وهي إحدى مجموعات النشطاء التقنيين التي ذاع صيتها في تسعينيات القرن الماضي، وكانت مهمتها تتمثل بتصميم تشفيرات متينة وتوسيعها، كأداة هادفة لتغيير العالم، حيث كان فينشنزيتي يشارك حينها في ذات القوائم البريدية والمنتديات التي كان يشارك فيها أشخاص مثل جوليان أسانج، مؤسس موقع ويكيليكس، وجون غيلمور، أحد مؤسسي مؤسسة الحدود الإلكترونية (EFF).
حسب رسالة بريد إلكتروني مسربة عن فينشنزيتي، فإن الأخير لا يستطيع التعبير عن رأيه في مؤسسة الحدود الإلكترونية (EFF) والشركات التابعة لها، وبالنظر إلى رد فعل العاملين في مؤسسة الحدود الإلكترونية حول اختراق هاكينغ تيم، يمكننا أن نجزم بأن الشعور بعدم الرغبة بالتصريح، هو شعور متبادل، ولكن على الجهة الأخرى، قضى أسانج، المدافع الشهير عالميًا عن شفافية الحكومة والشركات، يوم الإثنين بكامله وهو ينشر البيانات المسربة من هاكينغ تيم، حتى يستطيع أي شخص أن يحملها ويطلع عليها.
رغم أن فينشنزيتي أمضى بعض الوقت في كتابة البرامج الدفاعية، بيد أنه قضى وقتًا أطول في بناء الأدوات الهجومية؛ ففي عام 1991، كتب المخترق الإيطالي شيفرة لبرنامج تجسس تمكنه من “سرقة كلمة السر الأساسية من معظم أنظمة تشغيل اليونكس في ساعات أو حتى في دقائق”، كما أوضح في منشور له على منتدى يوزنت.
فينشنزيتي شارك في تأسيس شركة هاكينغ تيم في عام 2003 في ميلانو، والتي أصبحت نقطة علام ضمن شركات التكنولوجيا، حيث حققت الشركة الكثير من الدخل في بداية تأسيسها من خلال توفير الأدوات الدفاعية، أي البرامج التي تحمي المستخدمين من المخترقين، للبنوك والشركات التجارية الكبرى، ولكن الأدوات الهجومية، التي تمد من يستخدمها بقوة إلكترونية هجومية هائلة، كانت دائمًا متوفرة في هاكينغ تيم لمن يدفع ثمنًا أعلى.
نظام التحكم عن بعد (Remote Control System) الذي أصدره فينشنزيتي في عام 2003 مع انطلاق هاكينغ تيم، كان قادرًا على اختراق الأجهزة المستهدفة والسيطرة عليها بشكل فعال للغاية، لدرجة أن عشرات البلدان ابتاعت ترخيصه واستخدمته، منفقة مبالغ تفوق الـ1 مليون يورو، ثمنًا لشراء الترخيص، ومع ذلك يصر فينشنزيتي مرارًا وتكرارًا أن شركته تعمل ضمن المبادئ الأخلاقية، رغم أن منظمة مراسلين بلا حدود، وهي مجموعة رصد صحفية مستقلة، وصفت شركته بأنها “عدو للإنترنت”.
جاء في الكتيب الترويجي لبرنامج نظام التحكم عن بعد (Remote Control System):
“لا يمكنك إيقاف أهدافك عن الحركة، لذا كيف يمكنك أن تبقى تطاردهم؟ ما تحتاجه هو وسيلة لتجاوز التشفير، وجمع البيانات المناسبة من أي جهاز، والحفاظ على متابعة ورصد أهدافك الخاصة أينما كانت، حتى خارج نطاق مراقبتك، ونظام التحكم عن بعد يحقق هذا العمل بالضبط”.
“سيطر على أهدافك وراقبها بغض النظر عن وسائل التشفير ومكان الهدف، لا يهم إذا كنت تستهدف هاتف أندرويد أو جهاز كمبيوتر يعمل بنظام ويندوز، لأنه يمكنك مراقبة جميع الأجهزة، نظام التحكم عن بعد غير مرئي للمستخدم، ويتجاوز مضادات الفيروسات والجدران النارية، ولا يؤثر على أداء أو عمر البطارية في الأجهزة”.
“اخترق أهدافك مع أكثر البرامج المتاحة تقدمًا وتطورًا، ادخل إلى الشبكة اللاسلكية للهدف، وقم بتأدية عمليات تكتيكية من خلال معدات مخصصة ومصممة للعمل في أثناء التنقل، راقب جميع أهدافك الخاصة، وقم بإدارتها عن بعد، وكل ذلك من شاشة تحكم واحدة، نظام التحكم عن بعد: مجموعة الاختراق للتنصت الحكومي، أصبحت في متناول يدك الآن”.
عندما كان في العشرينات من عمره، شاهد فينشنزيتي عن بعد، أترابه من مصممي البرامج التقنية، وهم يتحولون لرجال أعمال مهمين، يعقدون صفقات مع أكبر البنوك في العالم، وهو المسار الذي اتبعه هو ذاته في نهاية المطاف؛ فمنذ البداية، فُتن فينشنزيتي بالمآثر التي يستحوذها المهاجمون وهم يخترقون الترتيبات الأمنية للبرامج الشعبية، كما أعجبته التكتيكات المتخذة حكوميًا لتجاوز التشفير.
خلال الـ12 عامًا من حياة هاكينغ تيم، أصبح فينشنزيتي رمزًا إيطاليًا مصغرًا للتكنولوجيا، حتى وصل لدرجة استحقاقه لمقابلات كبيرة في أحد المجلات الإخبارية الأكثر شعبية في إيطاليا، لي اسبريسو.
أخيرًا، وعلى الرغم من أن النقلة النوعية من مجموعة (cypherpunk)، التي تصمم تشفيرات متينة لتغيير العالم، إلى عالم الشهرة الوطنية، هي رحلة قام بها العشرات سابقًا، ولكن لم يقم أي منهم بهذه الرحلة بذات الطريقة التي انتهجها فينشنزيتي.
المصدر: ديلي دوت