ترجمة وتحرير نون بوست
الشعب اليوناني قال “لا” لمرارة برنامج تقشف الاتحاد الأوروبي، اليونانيون، الذين شدوا الأحزمة على البطون لسنوات، قالوا “لا” لشروط الاتحاد الأوروبي للحصول على المساعدة، رغم أنه يعلم أنه سيمر بأيام أكثر تقشفًا وصرامة، وزعيم المعارضة أنطونيس ساماراس، الذي كان يدعم حملة “نعم”، استقال من منصبه، وبدأت حملة إعادة التفاوض رسميًا وبشكل غير رسمي، وإذا لم يتم التوصل إلى حل، من المرجح أن تترك اليونان منطقة اليورو، ويتساءل الكثيرون عن رد فعل الترويكا على هذه الاستجابة السلبية، ولكن من المؤكد، أن هذه الاستجابة السلبية سوف تؤدي دور نقطة العلام المضيئة التي ستنير طريق معارضي التقشف في حوض البحر الأبيض المتوسط، مثل الدول التي تعاني من قضايا مماثلة لقضية اليونان، كإسبانيا، البرتغال، إيطاليا، وحتى فرنسا، جميع هذه الدول تتعرض لضغوط من صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي.
ولكن، هل هشاشة هذه الدول الواقعة في حوض البحر الأبيض المتوسط تشابه هشاشة الاقتصاد التركي؟ أو على اعتبارها بلد متوسطي آخر، هل سوف تمر تركيا بذات التجربة التي يمر بها أعضاء الاتحاد الأوروبي؟ وعلى اعتبار أن شكل الهشاشة في هذه الدول يبدو متماثلًا، فهل مصادر هذه الهشاشة متماثلة كذلك؟ وهل سوف تنتشر الهشاشة التي تعم منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط إلى تركيا؟
من وجهة نظر المستثمر الأجنبي، تركيا ودول الاتحاد الأوروبي الأخرى الواقعة على المتوسط تصنف تحت بند “البلدان الهشة”، ولكن المخاطر الاستثمارية والأجهزة المسؤولة عن الضعف مختلفة بين هذه البلدان، فعلى عكس أعضاء الاتحاد الأوروبي، هشاشة تركيا تنبع من القطاع الخاص.
هشاشة الشركاء المتوسطيين في الاتحاد الأوروبي عائدة إلى السياسة المالية العامة، حيث تحاول المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي التغلب على هذه المشكلة، وفي بعض الأحيان يتدخل صندوق النقد الدولي لحلها أيضًا، ولكن هشاشة تركيا ليست ناجمة عن القطاع العام، بل إنها تنبع من القطاع الخاص، وإذا لم يتم الخروج من عنق الزجاجة، من المرجح أن يتدخل صندوق النقد الدولي لحل الأزمة.
خلال الأزمة في عامي 2000 و2001، شهدت تركيا ما تشهده بلدان البحر الأبيض المتوسط حاليًا، وحينئذ قالت تركيا “نعم” على ذات الموضوع الذي صوت اليونانيون عليه بـ”لا”، وتغلبوا على المشكلة ولكن بثمن اجتماعي وسياسي باهظ.
جدول يوضح مؤشرات الأزمة الاقتصادية التركية في 2000 و 2001، ويوضح الجدول في الأسفل معدلات الهشاشة في عدد من دول حوض البحر المتوسط وهي اليونان والبرتغال وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا وتركيا
الأزمات في حوض المتوسط
جميع الأنظار حاليًا تتركز على اليونان، كيف ستتعامل مع ديونها الضخمة؟ وكيف ستتعامل مع معدلات البطالة الفلكية التي تعاني منها، والتي تناهز حاجز الـ27% بشكل عام، وتصل إلى حدود الـ60% ما بين المواطنين الشباب، ولكن في الواقع، اليونان ليست هي الدولة الوحيدة التي تعاني من مشاكل، وعلى الرغم من أن مؤشرات الأزمة في هذا البلد هي أشد بروزًا من باقي الدول، بيد أن التركيز على اليونان بالذات نابع من حربها الجارية مع الترويكا، وعدم انصياعها لشروطه.
من المعروف أنه عندما ضربت الأزمة العالمية الاتحاد الأوروبي في عامي 2008-2009، كانت بلدان الجنوب الأوروبي، الواقعة على حوض البحر المتوسط، هي الأشد تضررًا من هذه الأزمة، حيث تسببت الأزمة العالمية ببروز نقاط الضعف في إسبانيا، البرتغال، إيطاليا، وحتى في فرنسا، وبالطبع اليونان، وبغية مكافحة الأزمة، تم استعمال الأموال العامة للدولة، مما أحدث زيادة في العجز العام، حيث اطردت الديون العامة التي رتبتها هذه الدول على كاهلها؛ مما جعل الأزمة المالية للقطاع العام هي المشكلة المشتركة لدى جميع هذه الدول.
المدين الأكبر في جميع هذه البلدان، بما في ذلك فرنسا، هو القطاع العام، ولذلك ركزت جميع العمليات التي قامت بها دول الاتحاد الأوروبي لحل المشكلة، على الحد من العجز في الموازنة العامة، مجبرة بذلك الديون العامة على الانكماش، وبغية ذلك، تم تخفيض الإنفاق العام، وتقليص الاستثمارات العامة، بغض النظر عن إمكانية هذين العاملين بالمساهمة في النمو الاقتصادي، ونتيجة لذلك انخفض الطلب الداخلي.
المنافسة في الأسواق الخارجية ضمن عملة اليورو ليس سهلًا بتاتًا، كون مناخ اليورو يعرقل نسبيًا القدرة التنافسية للبلدان الهشة اقتصاديًا، فمنذ تحول هذه البلدن الأخيرة إلى اليورو، فقدت قدرتها على خفض قيمة عملاتها لاكتساب القدرة التنافسية في الأسواق العالمية، ومن هذا المنطلق، فإن هذه البلدان غير قادرة على منافسة بلدان منطقة اليورو الأقوى اقتصاديًا، مثل ألمانيا والنمسا وهولندا، وخاصة في المنتجات ذات القيمة المضافة العالية، مما قصر إنتاج الدول الهشة اقتصاديًا على المنتجات ذات القيمة المضافة المتوسطة والمنخفضة، وهو في الواقع الدور المنوط بهم في تقسيم الاتحاد الأوربي لأدوار العمل.
التجربة التركية
شهدت تركيا أزمة التمويل العام لدول حوض البحر الأبيض المتوسط، خلال أزمة عامي 2000-2001، وحينها اشترط صندوق النقد الدولي إجراءات مريرة على تركيا، تشابه الإجراءات التي تقاومها اليونان وغيرها من الدول اليوم، وقد تم التغلب على هذه الأزمة ولكن بثمن سياسي واجتماعي باهظ، حيث ساعد الانخفاض الهائل بقيمة الليرة التركية على دعم الصادرات.
المشكلة الأكبر في أزمة عامي 2000-2001 لم تكن تتمثل بالعجز في الحساب الجاري، بل كانت تتمحور حول عجز التمويل العام، كون عجز الحساب الجاري في تركيا حينئذ لم يكن يتجاوز 3 مليار دولار، وهو الرقم الذي وصل إلى ذروته في عام 2011 بعجز وصل إلى 77 مليار دولار، وكان الاقتصاد حينها شديد الاعتماد على مصادر التمويل الأجنبية، كما هو الحال عليه اليوم.
في بداية فبراير 2001، أعلن الهبوط الحاد لليرة التركية عن حلول الأزمة المالية التركية؛ فإبان انقلاب ما بعد الحداثة في 28 فبراير 1997، كانت الحكومات الائتلافية التي تشكلت بين عامي 1998 و2002 هي عرّاب وضحية هذه الأزمة الرهيبة، وهي المسؤولة عن ممارسة جميع الإجراءات التي حلت وبالًا على الدولة التركية، بحيث تركت الشعب يعاني من الفقر المدقع، والبطالة المتنامية، وبالفعل دفعت هذه الحكومات ثمن ما اقترفته أيديهم في انتخابات عام 2002، عندما لم تستطع الوصول إلى العتبة الانتخابية، وبينما كانت الأحزاب المسؤولة عن الأزمة المالية تدفع ثمن أخطائها، تمتع الحزب الوليد عن حزب الرفاه، حزب العدالة والتنمية الذي شكله عبد الله غول ورجب طيب أردوغان، بثمار أسلافه، في مجالات المالية العامة، والبنية التحتية المجهزة للخصخصة، والعلاقات الطيبة مع صندوق النقد الدولي.
الوضع العالمي ما بين أعوام 2002-2007 ساعد أيضًا على إعادة إعمار الاقتصاد في البلاد، حيث تسلمت حكومات حزب العدالة والتنمية السلطة في البلاد في الوقت الذي كانت فيه السيولة تغدق الاقتصاد، والموارد تسكب بغزارة لتعزيز النمو الاقتصادي، والجماهير الذين اختاروا حزب العدالة والتنمية بعد أزمة 2001، عندما لم يكن يوجد حينها أي بديل حقيقي له، عادوا ليصوتوا لحزب العدالة والتنمية لفترتين انتخابيتين قادمتين، ومن جهته، عمل حزب العدالة والتنمية على تطبيق حلمه الاقتصادي، وبناء النظام على هذا الأساس.
نقاط ضعف اليوم
مصادر الدخل العديدة التي تدفقت إلى الاقتصاد التركي بعد عام 2002، حوّلت تركيز الاقتصاد إلى السوق الداخلية، وكما حولت الاقتصاد للمشاركة في البناء ولكن بدون وضع خطة رئيسية للبلاد، كما تم إنفاق النقد الأجنبي أيضًا دون تحقيق مكاسب، وبالنتيجة ارتفع دين تركيا الخارجي إلى أكثر من 50% من الدخل القومي، حتى حوالي 400 مليار دولار أمريكي، وهذه الديون يدين بثلثيها القطاع الخاص، و40% منها يستحق على المدى القصير.
هشاشة الاقتصاد التركي اليوم تنبع من صعوبات إنهاء اعتماده على الموارد الخارجية، ومن التزامه بتسديد الديون، وأحد الجوانب الهامة من هذه الهشاشة هي حقيقة أن 40% من إجمالي الديون تستحق على المدى القصير خلال 12 شهرًا، مما يُبطئ تدفق رؤوس الأموال الأجنبية، ويعيق تركيا عن الوفاء بالتزاماتها، والمشكلة هنا لا تكمن بالعجز العام، بل في عدم قدرة القطاع الخاص على الاستثمار، في الوقت الذي تجد فيه الدولة التركية صعوبات في تجديد الديون، أو تضطر فيه إلى تحمل خسائر فادحة من خلال دفع أقساط ديونها بأسعار أعلى، وعلاوة على ذلك، فإن البنك المركزي الأوروبي لا يلعب دور المنقذ بذات الطريقة التي تفعلها المفوضية الأوروبية.
نتيجة لما تقدم، ففي حال وقوع مشاكل، فإن الباب الوحيد الذي يمكن لتركيا أن تطرقه، هو صندوق النقد الدولي، ولكن بالتأكيد لن تكون الوصفة الاقتصادية التي سيكتبها مستساغة لا للشعب التركي ولا للدولة التركية.
المصدر: صحيفة حريات التركية