ترتبط تونس وليبيا بحدود برية مشتركة تمتد على نحو 500 كم، كانت على مر التاريخ بوابة تبادل تجاري بين البلدين ورافد عيش لسكان مناطق التماس القاحلة بينهما.
ومنذ إسقاط نظام القذافي عام 2011 وانقسام البلاد بين سلطتين؛ حكومة يعترف بها المجتمع الدولي في الشرق، وحكومة مناوئة لها تدير العاصمة، شهدت ليبيا حالة انهيار تام للدولة، ما حولها إلى مرتع للإرهاب والتهريب بحسب تقارير متواترة.
وبالنظر إلى الوضع الأمني الهش الذي تشهده تونس، وبعد تمركز أغلب الرموز التونسية المتشددة في ليبيا، وبعد أن تم كشف معطيات حول منفذي عمليتي باردو وسوسة الإرهابيتين تفيد بأنهما تلقيا تدريبًا عسكريًا على أرضها (ليبيا)، أعلنت السلطات التونسية الانطلاق الفعلي في إنجاز فكرة بناء جدارًا حدوديًا يمنع تسلل السلاح والمسلحين وباقي السلع المهربة.
تفاصيل حول الجدار
ويبلغ طول الجدار الأمني 220 كيلومترًا، ويتكون من مجموعة من الخنادق والحواجز الترابية، وتعززه منظومة مراقبة إلكترونية وجوية، وقد سبق قرار إنجازه إجراءات أخرى من أجل نفس الهدف، حيث أقر الرئيس التونسي السابق، المنصف المرزوقي، في أغسطس 2013، إقامة منطقة عازلة، جنوب شرقي تونس لحماية الحدود ومنع تهريب السلاح.
ومع تطور الأحداث الأمنية في تونس، فرضت الفكرة نفسها أكثر على أرض الواقع، خاصة بعد عمليات سوسة وباردو، وبعد أن أقرت السلطات التونسية بصعوبة مراقبة الحدود الجنوبية مع ليبيا، التي تعيش صراعًا بين أطراف مسلحة منها تنظيم داعش، الذي تبنى الهجوم الأخير، وسبق أن صرّح في عدة مناسبات، بإدخاله السلاح من ليبيا.
وسيمتد الخندق العازل من معبر رأس جدير الحدودي بمدينة بنقردان (البوابة البرية الأكبر بين البلدين) إلى معبر ذهيبة/ وزان بمنطقة ذهيبة التابعة لمحافظة تطاوين جنوب شرق البلاد، ويتراوح عمق الخندق بين مترين ومترين ونصف، فيما سيتم بناء ساتر ترابي بين كل كيلومترين إلى ثلاثة كيلومترات من الخندق، بالإضافة إلى وضع حواجز مصنعة في الأماكن التي يصعب الحفر فيها.
ويتخلل الخندق عدد من الهضاب والجبال اعتبر المسؤولون العسكريون المشرفون على المنظومة الأمنية “أنها بحد ذاتها تمثل حاجزًا عازلًا”، في حين سيتم تركيز المراقبة وبناء حواجز داخل بعض الجبال، التي قد تحتوي على منافذ، كما سيتم تثبيت أجهزة إلكترونية عند الانتهاء من أعمال الحفر.
وستتضمن عملية حفر الخندق تسعة أجزاء، بحسب مناطق الحفر وهي، المقيسم، الكرانتي، عين النخلة، أم القرصان، خاوي الميدة، مشهد صالح، طويل الحلاب، ذهيبة، ومنطقة برزط.
وأُنجز حتى الآن عشرة كيلومترات من الخندق، فيما ينتظر الانتهاء من أعمال الحفر نهاية عام 2015، وفقًا لوزير الدفاع التونسي فرحات الحرشاني، الذي أشار إلى أن القطاع الخاص التونسي يشارك في أعمال الخندق، وأن الجيش التونسي سيضطلع بتأمين تجهيزات الشركات العاملة، ونقل المحروقات لها وتذليل الصعوبات أمامها.
وقال الناطق الرسمي باسم وزارة الدفاع الوطني، بلحسن الوسلاتي، الجمعة، إن بناء هذا الجدار يندرج في إطار أولويات الوزارة للمائة يوم، وهي تدخل في إطار إحكام الجيش التونسي السيطرة على الحدود وتدعيم الترتيبة الدفاعية للبلاد، وفق تعبيره.
بوادر قلق دبلوماسي بين الجارين
وكرد فعل على قرار الحكومة التونسية المسارعة بإنجاز الجدارالأمني، أوردت صفحات على الفيسبوك بيانًا منسوبًا لقوات “فجر ليبيا” جاء فيه، أن شروع تونس في بناء جدار عازل مع ليبيا، يمثل “البدء في التعدي على الأراضي الليبية عبر بناء ترسيم الحدود الليبية التونسية من طرف واحد”.
كما أشار إلى أن تونس، لم تقم بإعلام ليبيا عبر القنوات الدبلوماسية، “أو مخاطبة الجهات الشرعية الليبية قبل الشروع في هذا التعدي الصارخ على السيادة الليبية”، وفق نص البيان، وجاء في البيان أيضًا “نحذر الحكومة التونسية من مغبة المضي قدمًا في بناء هذا الجدار قبل الرجوع إلى السلطات الليبية، والتنسيق معها في عملية ترسيم الحدود وإلا فسنعتبره تهديدًا صارخًا، وتعديًا على الأراضي الليبية يرقى إلى درجة “الاحتلال”.
من الجانب التونسي، قال وزير الخارجية التونسية الطيب البكوش، الإثنين، إن بلاده لم تتسلم أي احتجاج رسمي من قِبل حكومة طرابلس بخصوص بناء جدار على الحدود بين البلدين، وأوضح البكوش أن “وزارة الخارجية لم يصلها أي موقف رسمي من حكومة فجر ليبيا – في إشارة إلى حكومة الإنقاذ ومقرها طرابلس – بخصوص بناء الجدار الحدودي”، وتابع “ما ذكره لنا بعض المسؤولين من حكومة طرابلس، أن هناك ميليشيات تابعة لفجر ليبيا، لها مواقع على فيسبوك، وتتخذ مواقف عليها لا تمثل موقف الحكومة”.
وبالفعل لم يتأخر الاحتجاج الرسمي الذي طالب به البكوش، حيث صعدت ليبيا من لهجتها تجاه الجارة تونس بخصوص عدم إشراكها في تأمين الحدود التي تجمع بين البلدين؛ وأشارت الحكومة التي تدير العاصمة الليبية طرابلس، عبر بيان رسمي، إلى أن عدم التنسيق معها فيما يتعلق بتأمين الحدود بين البلدين لن يحقق لها الاستقرار، في إشارة إلى الجدار الحدودي الذي تقوم تونس ببنائه.
وقالت الحكومة إن أي إجراء يخص تأمين الحدود بين البلدين ينبغي أن يكون نتيجة تحاور وتنسيق بين البلدين، وإن أي إجراء أحادي لا يحقق الاستقرار والأمن المنشود، ودعت السلطات التونسية إلى المزيد من الحوار والتنسيق مع السلطات الليبية لتأمين الحدود بين البلدين، متهمة السلطات التونسية بـ”المماطلة” كلما دعيت إلى التنسيق مع السلطات الحاكمة في طرابلس.
يبدو أن الجدار، الذي مضت تونس في بنائه، وأثار حفيظة حكومة طرابلس، سيكون له أثر اجتماعي عميق، فمن خلال متابعة تفاعل مستعملي وسائل التواصل الاجتماعي في البلدين، يبدو أنه نجح مبدئيًا في إثارة بعض النعرات بين الشعبين، بين ليبيين اعتبروا أن “رفع جدار” دون التنسيق معهم هوعمل استفزازي، وبين تونسيين اُختطف أبناء وطنهم في ليبيا أكثر من مرة، وملوا من منطق التهديد الذي بات سمة عامة، وإن لم يكن رسميًا.
من المهم أن تتجاوز الدبلوماسية التونسية عثراتها واهتزازها؛ فمثل هذا التعنت المجاني دون مراعاة الوضع الليبي المأزوم قد يُصعّب الأمورعلى تونس نفسها قبل الآخرين.