تابعت على غير العادة هذه السنة بعض البرامج الدينية في رمضان، أملًا مني أن ألمس تغيرًا حقيقيًا في طريقة الطرح أو نوعية المادة؛ فكان أن تابعت بعض حلقات سواعد الإخاء، الذي يضم عددًا من أبرز علماء المسلمين المشهورين، وتابعت بعض حلقات علمني موسى لسلمان العودة، وحديث القمر للعريفي، وبرامج أخرى.
في الحقيقة كان هذا التنوع في الاطلاع على المواد التي تبثها الفضائيات المختلفة سببه البحث عن محتوى مختلف قد تقدمه هذه البرامج، خلافًا لما كانت تقدمه في السنوات الماضية من دروس دينية أساسها الوعظ، لكن هذا العام لم يحمل في طياته أي تغير حقيقي في نوعية المواد المُقدمة.
الأعوام الأخيرة في حياة الأمة العربية والإسلامية لم تكن سنوات اعتيادية، حيث الكثير من التغيرات الجذرية في الفكر الإسلامي بشكل عام، منذ انتفاضة الأقصى في 2000، مرورًا باحتلال العراق في 2003، ووصولًا إلى ظهور الفكر الأكثر تطرًفا في المنطقة، والمتمثل بتنظيم داعش.
هذه الأحداث أفرزت لنا العديد من موجات التطرف، عانت منها معظم الدول العربية والإسلامية، لكن الخطاب الدعوي الوعظي نفسه لم يتغير، بالرغم من تطور النظام الدعائي لتلك التنظيمات، التي لا تجد صعوبة في الحصول على الدعم اللوجستي والمادي بل وحتى على مستوى المقاتلين الذين يتم تجنيدهم بشكل متواصل، والأمر في الغالب يحدث عن طريق ما يبثونه من دعاية متواصلة على مدار السنة لكثير من أعمالهم، مبررين ما يقومون به بشكل دعائي ينجح عادة في الوصول إلى الشريحة المستهدفة وإقناعها.
على الطرف المقابل، يقف الخطاب الديني عاجزًا، إلا في بعض حالاته، مبينًا وسطية الإسلام كمن يحاول أن يقنع أتباعه أنه على الصواب، بأسلوب ضعيف أقل ما يقال فيه أنه لا يرقى إلى نصف مستوى ما تقدمه تلك التنظيمات من حملات دعائية.
الأمر الآخر، أن معظم البرامج الدينية المُقدمة للشباب تُقدم بشكل متقطع، غير مستمر، فيما تواصل قنوات الفتنة ومجلات وفيديوهات التنظيمات الجهادية بث ما لديها بشكل متواصل ومستمر دون انقطاع أبدًا.
حين هاجم تنظيم القاعدة في جزيرة العرب عدة مواقع في الرياض وينبع في عامي 2003 و2004، كانت هبة علماء الدين المستنكرة يومها قوية جدًا، توضح الشبهات وتتحدث عن الذمي وحرمة دمه وماله، لكن شهورًا بعد العمليتين كانوا كفيلين بتوقف الخطاب المعتدل بشكل تدريجي حتى اختفائه من شاشات التلفاز لدينا، لكن في الوقت نفسه كان التنظيم مستمرًا في إصدار مجلتين نصف شهريتين؛ إحداها باسم صدى الملاحم، والأخرى بعنوان معسكر البتار.
تعمل المجلة الأولى على التأصيل الفكري للتنظيم وأعماله، وتتحدث عن الواقع المُعاش وكيفية تغيره، مستندة إلى العديد من النصوص الشرعية المقتبسة من كلام علماء كبار، أما المجلة الثانية فتتضمن تدريبات نظرية على استخدام السلاح وتصنيع العبوات الناسفة، وغيرها مما يحتاج إليه المبتدئون للشروع في أي عمل مسلح.
وفيما تتوقف الدعاية المعتدلة التي يقدمها العلماء بين فترة وأخرى، تستمر مؤسسات مثل صدى الملاحم أو السحاب أو غيرها من بث دعاية التنظيم بشكل محترف، من خلال الفيديوهات التي يقدمونها أو المنشورات والمجلات المختلفة.
مجلة دابق، على سبيل المثال، والتي يصدرها تنظيم الدولة “داعش” بشكل دوري، لا يوجد ما يقابلها – كمجلة علمية – بذات الكفاءة في التصميم، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعية الحديثة لنشرها، بل تكتفي بعض المجلات العلمية الإسلامية بنشر مقالات مطولة لبعض العلماء وطلبة العلم بأسلوب سردي غير جذاب.
إن المعركة الأولى الآن هي الحفاظ على أبناء الأمة من التفلت إلى مثل هذه التنظيمات المتطرفة، والسير في خطى الشيطان الذي تنيره مثل هذه التنظيمات بالكثير من الدعاية المحترفة، في جو يخلو كثيرًا من التأصيل العلمي المقابل المناهض لهذه الأفكار، فنجد العديد من الشباب العربي والأجنبي يترك الدنيا وراء ظهره ملتحقًا بتنظيمات هدفها ألا تبقيه حيًا لفترة طويلة.