على غير عادة الصورة النمطية المأخوذة عن قطاع غزة، هذه البقعة الصغيرة في هذا العالم والتي عاشت على مر الأعوام السبعة السابقة، 3 حروب كانت من أشد الحروب قسوةً وأكثرها جرمًا، من الفاشية الصهيونية ضد المدنيين من سكان القطاع، إلا أن الصورة الجمالية لهذه البقعة من هذا العالم غيبته وسائل الإعلام المحلية والعربية والدولية، ولم تحاول بشكل أو بآخر إبرازه بالشكل المطلوب.
شعب هذه المنطقة الجغرافية الصغيرة كأي شعب من شعوب هذا العالم محب للحياة يسعى إلى أن يكون ذي بصمة واضحة يترك من خلالها معنى للحياة التي تنبثق من بين ركام أحيائه.
في رمضان وتحديدًا خلال العشر الأواخر من أيامه تكتسي أحياء وشوارع غزة بأضواء توحي ببهجة مرتقبه لعيد سعيد، هكذا يرسمه أهالي القطاع من خلال تجوالهم في شوارع المدينة وأسواقها تحضيرًا لاستقبال العيد بأيامه وتفاصيله ابتداءً منذ بدء أول أيام العشر الأواخر وليس انتهاءً بأول أيام العيد، حيث يعيش المواطنون الغزيون أجواء رمضان في أيامه الأخيرة ما بين الاعتكاف والسعي في إدراك ليلة القدر وتحريها في الليالي الوترية من الشهر الكريم بالجد والاجتهاد ليحظى بعظيم فضلها وأجرها من الله عز وجل، وما بين التحضير لاستقبال عيد الفطر السعيد بأيامه لإدخال السرور على أفراد عائلته وعلى أهالي الحي الذي يقطنه.
هنا تتجلى الصورة الروحانية وتترابط في أبهى صورها لهذا المشهد في مدينة غزة من خلال صلاة القيام في المساجد والتي يأمْ فيها فئة من الشباب الحافظ لكتاب الله والذين كانوا في الأعوام الماضية قبل إغلاق معبر رفح في وجههم هذا العام سفراء وأئمه في مساجد لعدة دول في العالم كإندونيسيا وماليزيا، إلى جانب كبار السن من الشيوخ، حيث يتسابقون توقًا إلى تلمس وإدراك ليلة القدر من خلال القيام والتهجد والتعبد في بيوت الله المنتشرة في كافة أنحاء قطاع غزة.
وفي هذا العام على عكس العام الذي سبقه حيث غيب فيه هذا المشهد تمامًا في مختلف أنحاء القطاع وقتها، حيث قررت إدارة المساجد وفي سابقة هي الأولى من نوعها إلغاء إحياء العشر الأواخر حماية للمصلين من ألة البطش الصهيونية بعدما أقدمت إسرائيل بصواريخها على تدمير أكثر من 190 مسجدًا ما بين هدم كلي وجزئي، وتزامنًا مع الذكرى الأولى للحرب تستعد المساجد في قطاع غزة لإحياء ليله القدر واستعادة المشهد من جديد بصورة أكثر قوة توحي بأنه شعب مُحب للحياة ويسعى إلى أن يؤدي دوره في كافة المحافل وأينما حل يترك بصمته المؤثرة.
ومع دخول العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، يحرص المسلمون في كل مكان لإحياء سنة الاعتكاف داخل المساجد؛ اقتداءً بهدي النبي محمد خاتم المرسلين، ويتفرغ المعتكف فيها لطاعة الله والبُعد عن الناس طلبًا للأجر والتماسًا لليلة القدر.
هنا يتبادر إلى الذهن أن هذه الصورة الجمالية التي ترتسم في كل يوم من أيام رمضان المبارك رغم ما حل على هذا الشعب في أعوامه السابقة تُعطي صورة من التكاتف الاجتماعي والترابط الديني اقتداءً وأسوة بما نُقل على لسان النبي عليه السلام في قوله “مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو، تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى”.
ويسعى القائمون في أكبر المساجد في قطاع غزة إلى إحياء الليالي الوترية من خلال صلاة التراويح (القيام) وصلاة التهجد وما بين صلاتي التراويح والتهجد يبادر الكثير من أهل الخير في التنافس نحو الخير سواء كان بالمنافسة في قراءة وترتيل القرآن الكريم، أو إحضار زاد للمعتكفين داخل أروقة المساجد وتوزيعه عليهم، طلبًا للأجر أو المساهمة في توفير الاحتياجات التي قد يطلبها هؤلاء المعتكفون.
إضافة إلى ذلك فإن من أجمل ما قد يحدث في هذه الليالي المباركة أصوات المآذن التي تصدح بالدعاء والابتهالات الدينية التي يُلقيها خطباء المساجد في فترات متفاوتة بين ركعات القيام والتي يتسابق فيها أصحاب الأصوات الندية في التغني بها لرسم صورة روحانية مختلفة ضمن الأنشطة التي يقوم بها المعتكفون في المساجد.
في هذه الصورة تتجلى غزة ومدنها وأحياؤها بكامل قدرتها على الحياة، للنهوض من جديد لتكون على قدر من السعادة في رسم الصورة الكاملة عنها بعيدًا عما تصوره شاشات التلفزة ووسائل الأعلام والتي تُخفي هذا الجانب منها خاصة في هذا الشهر من كل عام.
“اللهم بلغنا ليلة القدر”، هذا لسان كل من يتجول في أروقة المساجد والأحياء مترقبًا نداء للتصالح الداخلي بينه وبين روحه ليرتقي معها نحو الطاقة الروحانية التي يستمدها في أواخر الشهر الفضيل.
شملنا الله وإياكم برحمته ومغفرته وجعلنا من عتقاء هذا الشهر الكريم، وكل عام وأنتم بخير.