مع إطلالة الأسبوع الأول من شهر تموز/ يوليو الجاري، ولمدى 51 يوما، تُستعاد ذكرى حرب العدوان على قطاع غزة في تموز/ يوليو – آب/ أغسطس 2014، وقل ذكرى حرب المقاومة المنتصرة ميدانيا على قوات الجيش الصهيوني، كما هي حرب الصمود الشعبي العظيم تحت قصف وحشي دام 51 يوما.
المشكلة الأولى في هذه الحرب كما في الحربين 2008/ 2009 و2012 على قطاع غزة، وحرب تموز/يوليو 2006 على لبنان، تكمن في تحديد الجانب الرئيسي فيها. ومنه يتحدّد تقويم الحرب وكيفية النظر إليها. ومن ثم كيفية إحياء ذكراها كل عام.
وإن كثيرا مما سيناقش حول هذه المشكلة لحرب 2014 ينسحب إلى حد كبير على الحروب الثلاث المذكورة أعلاه. وذلك مع إبقاء لهوامش من الفارق المتعلق بظروف المكان والزمان وشكل الاشتباك في كل حرب.
قبل أن يشن العدو الصهيوني حربه المذكورة في تموز/ يوليو 2014 على قطاع غزة حاول أن يتلافى ما اعتبره نواقص وسلبيات في حروبه الثلاث السابقة. وكان أولها يتعلق بإعادة بناء قوات بريّة اقتحامية تشتبك من نقطة اقتراب صفرية وبتصميم على كسر المقاومة ميدانيا، إلى جانب تحسين الإمداد (اللوجستيا بأنواعها)، وإبقاء الهدف الرئيس للحرب غامضاً لئلا تنكشف الهزيمة إذا لم يستطع تحقيقه، كما حدث له في حرب تموز/ يوليو في لبنان، وحرب 2008/ 2009 في قطاع غزة حيث حدّد الهدف وبانت الهزيمة.
وهذه النقطة الأخيرة سمحت للذين لا يروقهم أن تنتصر المقاومة ولا يريدون أن يسجلوا على العدو الصهيوني الهزيمة العسكرية أن يدّعوا أن الحرب لم يكن هدفها اكتساح غزة وسحق المقاومة وتجريدها من سلاحها. وإنما كان هدف نتنياهو أن يشنّ حرباً ثم يوقفها وبقدرته على الانتصار. ولكنه لا يريده.
وبهذا لم تلحق هزيمة بالجيش الصهيوني. بل لم تكن ثمة مقاومة تستحق الذكر.
تصوّروا اشتباكات ميدانية وجها لوجه، ومتكرّرة ولعدة أيام، لم يكن هدفها سحق المقاومة وتجريدها من السلاح والتشهير بأفرادها بعد أسرهم كما حدث مع قوات الأمن الفلسطينية في أريحا حين اقتحمها الجيش الصهيوني، وأسر القائد أحمد سعدات، وفرض على أولئك الأفراد أن يُعّروا صدورهم ويرفعوا أيديهم استسلاما، وصوّرهم كذلك ليذّل بهم الفلسطينيين والعرب والمسلمين مظهرا قدرته وبطشه ومصير من يعانده. فيا للعجب كيف تكون “أخلاق” العدو وأهدافه ومكائده وحربه النفسية قد تغيّرت في غزة عنها في أريحا، وعنها في عشرات الأمثلة من تاريخ حروبه.
وتصوّروا، ما تعرّض له قطاع غزة من قصف ودمار هائلين ولم يكن الهدف تركيع الشعب والمقاومة. وهو ما ينكره أولئك الذين لا يروقهم أن يروا العدو قد فشل وتوقف العدوان بطريقة مهينة له. ومن ثم الهزيمة. وكان هنالك صمود وشموخ شعبي وقيادي ومقاوم.
على أن الوجه الرئيس للحرب وهو الهجوم البري الميداني، وقد أُعِدّ له هذه المرّة لواءان من الكوماندوس المدربين تدريبا خاصا والمستعدين للاقتحام القريب والموت. ولكن للمفاجأة، ليس مفاجأة العدو فحسب وإنما أيضا مفاجأة الأقربين والأصدقاء، جوبِهَ الهجوم بدفاع مفكّر به جيدا وبخطة توقعته وبهجمات مضادة. وإذ باللواءين يتصدعان بالرغم من تكرار الهجوم، بتصميم يدّل على أن الجيش الصهيوني، في هذه الحرب، كان مستعداً للحرب البرية التي تستهدف اقتحام الدفاعات وتحطيمها وتحقيق غاية الحرب بالاحتلال وفرض الاستسلام.
فمعارك الأسبوعين الأولين كانت طاحنة فعلاً وكُسِر فيها العدو ميدانيا. وقد راح نتنياهو يفسّر ذلك بمفاجأة الأنفاق. ولكنه نسي أن الأنفاق كان وراءها من هندسها وحفرها وأخفاها ومن خرج منها ومن قاد معاركها وهنا يصبح قول المتنبي: “وَما تَنْفَعُ الخَيلُ الكِرامُ وَلا القَنَا/ إذا لم يكُنْ فوْقَ الكِرامِ كِرامُ”.
وبالمناسبة نسي نتنياهو أن يحتج بالبحر أيضا حين فاجأته كتائب القسّام لتصنع ملحمة “زيكيم” في اليوم الثاني للحرب، وقد خرج أبطالها من البحر في خطة محكمة ضربته خلف الخطوط في موقع عسكري. مما دللّ على أنه فقد زمام المبادرة في الحرب منذ اليوم الثاني. هذا ناهيك عن صواريخ حماس والجهاد التي راحت تتناغم مع المعركة الميدانية كأننا نشهد فرقة موسيقية يتحكم بكل فرد فيها قائد بارع من الدرجة الأولى…
فقد خرجت إشارات كثيرة بأن نتنياهو أراد أن يوقف الحرب منذ المعارك الأولى الميدانية بعد أن تبين له أن هزيمة منكرة تنتظره، كما لو وقع في فخ أو كمين. فقد فَقَدَ من قوات النخبة رُتبا عالية وضباطا وجندا ما أفقده الاتزان والتوازن.
حقاً إن ما كانت قد أعدّته قيادة كتائب عز الدين القسّام من إعداد طوال سنوات، وكذلك قيادة سرايا القدس من مواجهة حرب على هذا المستوى يجب أن يُعتبَر “شُغْلا” عسكريا فذا من الناحيتين الدفاعية والهجومية والحركة التكتيكية في أثناء القتال يستحق أن يؤدي له التحية كبار الجنرالات.
ولكن الموقف الرسمي المصري للأسف، والذي واصل إحكام حصار قطاع غزة في أثناء الحرب ضغط على نتنياهو بأن لا تتوقف الحرب من جانب واحد وتخرج غزة ومقاومتها بانتصار مدوِّ. الأمر الذي سمح للحرب أن تتحوّل إلى حرب من الجو والبحر عبر القصف من بعيد، وبإصرار لمدى جعلها 51 يوما. مما ألحق خسائر في البشر والحجر هائلة. وكان كل ذلك لإخفاء الهزيمة العسكرية الميدانية ولحرمان المقاومة والشعب من انتصار سياسي يكلّل الانتصار العسكري.
وبهذا لم يقتصر الدور المصري على إطالة أمد الحرب حوالي خمسة وثلاثين يوما زيادة، فقد ذهبت رعايته لوقف إطلاق النار والمفاوضات غير المباشرة، إلى تعطيل تلك المفاوضات. بل إلى وضع القطاع تحت حصار خانق لم يسبق له مثيل من جهة معبر رفح وما صحبه من هدم شامل للأنفاق. وقد شاركت سلطة رام الله بهذا الحصار وتغطيته. الأمر الذي أعفى نتنياهو من دفع ثمن هزيمته وجرائمه وسمح له بمواصلة الحصار من جهته كذلك، كما سمح للمهزومين أن يبتلعوا ريقهم.
ليس ثمة ما هو أصدق من الحرب في كشف الأهداف وفي إظهار حقيقة كل طرف فيها، وإظهار السلبيات والإيجابيات. فوقائع حرب 2014 تؤكد أن هدف نتنياهو كان سحق المقاومة وتجريد القطاع من السلاح وإلاّ كيف يستطيع أن يحتمل وضعاً يمتنع على جيشه عسكريا وتصل صواريخه إلى حيفا وتل أبيب والقدس. وقد دأب على إعداد المقاومة عسكريا وتعزيزها بالأنفاق، وتطوير صواريخها؟ ومن يظن أن نتنياهو يخاطر بمستقبله السياسي، في شنّ حرب لكي لا ينتصر فيها، عليه أن يُعيدَ قراءة المشروع الصهيوني في فلسطين من الألف باء. وذلك ليعرف أن قطاع غزة بزعمهم جزء من “أرض إسرائيل” ولا يتركه إلاّ مجبرا. فكيف يصبح قاعدة عسكرية مُحرّرة تهدّد ما حولها من مستوطنات. وتصل ذراعها الصاروخية إلى حيفا؟ ولعل تجربته مع غزة تخيفه حتى الموت من مقاومة وانتفاضة تندلعان في القدس والضفة الغربية، ويؤول الوضع إلى قاعدة مقاومة ثانية.
نعم هنالك مقاومة انتصرت في حرب 2014 في قطاع غزة، وثمة شعب جبار انتصر على القصف المجنون. وصمدا سنوات تحت الحصار الخانق وسينتصران على الحصار. ومن لا يرضى بذلك من أبناء قومنا فواأسفاً عليه وما آل إليه.
وبالمناسبة هل هنالك حصار في الماضي والحاضر ضرب ويضرب على مدينة أو منطقة أو بلاد لا يستهدف تركيعها وإخضاع شعبها وقيادتها وتجريدها من سلاحها وعناصر قوتها. فحصار قطاع غزة ليس له من معنى غير ذلك الهدف، ومن يدّعي غير ذلك بينه وبين الواقع أميال.
وأما الفلسطيني الذي لا يرى قطاع غزة قد انتصر في الحرب ويعجبه الوضع في رام الله أو يعتبر الثاني أفضل ولا يرى في الأول وضع مقاومة. فليتأمّل في بيت الشعر الذي قاله المتنبي: “ما الذي عِنْدَهُ تُدارُ المَنَايَا/ كالّذي عِندَهُ تُدارُ الشَّمولُ”. (ومعنى الشمول: الخمر أو الكوكا كولا والمفاوضات والتنسيق الأمني).
لهذا كانت جماهير القدس والضفة الغربية ومناطق 48، وفي كل المهاجر تعيش لحظات مجد وتضامن مع قطاع غزة في أثناء حرب 2014، فيما راح المهزومون الذين ضيّعوا اتجاه البوصلة ونسوا منطلقات فتح وميثاق م.ت.ف، ينكرون أن ثمة مقاومة ويودون لغزة، في الآن نفسه، أن تدخل طريق المساومة وتتخلى عن طريق المقاومة. فيتساوى الجميع وبهذا “تُحَقَّقُ الوحدة الوطنية” والمشروع “الوطني الفلسطيني” (حل الدولتين) لتضيع فلسطين.