في أكتوبر عام 1991، أصدرت هيئة البريد الأمريكية مجموعة جديدة من الطوابع تحتفل فيها بإنجارات ناسا في استكشاف المجموعة الشمسية، وقد احتوت المجموعة على طابع بريد لكل كوكب يحمل صورته مع الإشارة إلى مركبة فضائية أرسلتها ناسا لذلك الكوكب، بيد أن الطابع الخاص بكوكب بلوتو، والذي لم تقترب منه حتى ذلك الوقت أي مهمات فضائية، احتوى فقط على كلمات ثلاثة: not yet explored، أي لم يُكتَشَف بعد.
بعد 14 عامًا، آن لتلك الكلمات أن تتغير، إذ أتتنا صور بلوتو المُذهلة الواحدة تلو الأخرى على مدار الأيام القليلة الماضية، بعد أن التقطتها مركبة الفضاء التابعة لناسا نيو هورايزنز New Horizons، المخصصة لدراسة سطح بلوتو وقمره الأكبر شارون، بالإضافة إلى الأجسام الصخرية والثلجية المتناثرة في حزام كويبر الذي يحيط بالمجموعة الشمسية.
كانت ناسا على موعد مع التاريخ يوم 14 يوليو حين اقتربت المركبة من سطح بلوتو ليكون بينها وبينه 12،500 كيلومتر فقط، وهي مسافة تساوي تقريبًا المسافة بين مدينتي نيويورك الأمريكية ومومباي الهندية، وهي أقرب نقطة وصلتها المركبة قبل أن تنطلق بعيدًا وتحلق باتجاه حزام كويبر، ومن ثم إلى الفضاء الفسيح.
صورة فنية للمركبة بالقُرب من بلوتو وقمره شارون
“اكتشاف بلوتو وأقماره الخمسة يمثل تتويجًا لخمسين عامًا من اكتشاف ناسا والولايات المتحدة للكواكب،” هكذا قال مدير وكالة ناسا تشارلز بولدِن، “مرة أخرى، نصنع نحن سابقة تاريخية، لنصبح أول بلد يصل إلى بلوتو بعد أن مسحت المركبة المجموعة الشمسية كاملة.”
كانت مركبة نيوهورايزنز قد انطلقت عام 2006 لتكون أول مهمة ضمن مجموعة مهمات نيوفرانتيرز New Frontiers التي دشنتها ناسا العقد الماضي، وقد ظلت متجهة صوب بلوتو وحزام كويبر لسنوات، وتلقت دفعة من كوكب المشترى وهي تتجاوزه نتيجة جاذبيته العالية، لتزيد سرعتها، وتصل اليوم إلى 13.78 كيلومتر في الثانية، لتصبح أسرع مركبة فضائية داخل المجموعة الشمسية.
كوكب المشترى كما صوّرته مركبة نيوهورايزنز بالأشعة تحت الحمراء
نيو هورايزنز
لم تكن مهمة نيوهورايزنز سهلة بالطبع، ليس للسنوات الطويلة التي استغرقتها، والتي كان يمكن أن تتعطل فيها لأسباب شتى، مثل ارتطامها بأجسام مجهولة عابرة وهو ما كان يُحتَمَل أن يحدث بالفعل حين اكتشف العلماء قمرين جديدَين لبلوتو عام 2013، ولكن بسبب الطريق الشاق الذي سار فيه المهتمون ببلوتو منذ أوائل التسعينيات لإقناع إدارة ناسا بتخصيص مهمة للكوكب الصغير وحزام كويبر، والذي لاقى رفضًا لأكثر من عقد.
خلال أواخر التسعينيات أكدت دراسات كثيرة على وجود حزام كويبر، وهي منطقة تبدأ من مدار كوكب نِبتون، آخر الكواكب الكبيرة، وتتسع لحوالي سبعة مليارات ونصف المليار كيلومتر من هذه النقطة، وتحتوي على أجسام شديدة الصغر مقارنة بالكواكب، معظمها كويكبات متبقية من مرحلة تشكّل المجموعة الشمسية ومكونة من مركبات الميثان والأمونيا والماء المجمدة، كما تضم ثلاثة كواكب صغيرة أو كويكبات هي بلوتو، وهاوميا وماكيماكي الأصغر حجمًا.
حزام كويبر يحيط بالمجموعة الشمسية، والسهم الأحمر يشير لمسار مركبة نيوهورايزنز
منذ ذلك الوقت، عبر الكثيرون عن رغبتهم في إطلاق مهمة بأبسط التكاليف، وبمسبار خفيف وسريع، ليصل إلى تلك المنطقة في أسرع وقت، ويتيح للعلماء دراسة حزام كويبر وكوكب بلوتو عن قُرب لأول مرة، وهو ما دفع وكالة ناسا إلى بدء التحضير لمهمة بلوتو كويبر إكسبرس، إلا أن رئيس الوكالة دانييل جولدين لم يعطي لها أولوية، كما فعل مع محاولات سابقة مثل “بلوتو 350” و”بلوتو فاست فلاي باي”، وهو ما دفع مدير المهمات العلمية إلى إلغاء المقترح عام 2000 بحُجة غياب الميزانية الكافية.
في نفس العام، قام ستاماتيوس كريمغيس، رئيس قسم الفضاء بمعمل الفيزياء التطبيقية في جامعة جون هوبكينز، بالتعاون مع ألان ستِرن، أحد المهتمين ببلوتو لوقت طويل، والمسؤول عن مهمة “بلوتو فاست فلاي باي” التي لغتها ناسا عام 1993، لتشكيل فريق نيوهورايزنز، ليتم اختياره رسميًا وتخصيص ميزانية له عام 2001، وقد عُهِد إليه بتقديم دراسات عن جيولوجيا بلوتو وقمره شارون، ومكوناتهما الكيميائية، وخصائص الغلاف الجوي لبلوتو، بالإضافة إلى دراسة حزام كويبر.
مركبة نيوهورايزنز أثناء تركيبها
بالفعل، تم الانتهاء من تصميم وتصنيع المركبة عام 2006، لتنطلق من سماء الأرض وتعبر مدارات الكواكب كلها، وتصل على مقربة من بلوتو منذ يومين، وهي محمّلة بأجهزة علمية عديدة تعين العلماء على التصوير الدقيق وتحليل المكونات الموجودة على الكوكب، كما تحتوي على قرص مدمج يضم حوالي 400،000 اسم من أسماء البشر، وعلم للولايات المتحدة، وحوالي 30 غرامًا من رفات كلايد تومبو الذي اكتشف بلوتو عام 1930.
بلوتو عن قُرب
على مدار اليومين الماضيّين، كانت الأجواء احتفالية في ناسا بعد الصور البديعة التي أرسلتها إلينا نيوهورايزنز، وكان رئيس المهمة ألان ستِرن تحديدًا في سعادة غامرة بعد أن تحقق حلمه الذي انتظره لأكثر من عقدين، وبالأمس تحديدًا عبر ستِرن عن اندهاشه من ملامح سطح بلوتو التي جاءت في أحدث الصور من المركبة، وأظهرت دلائل على وجود نشاط جيولوجي على الكوكب، وجبال مغطاة بقمم جليدية.
ألان ستِرن (يسار) يرفع صورة طابع البريد القديم الذي أظهر بلوتو عام 1991، وقد شطب على كلمة لم يُكتَشَف بعد
هو عالم أكثر تعقيدًا مما اعتقده كثيرون، حيث ظن البعض أن بلوتو ليس سوى كوكب بعيد وصغير وشديد البرودة، بين أن شكل القلب الذي ارتسم على سطحه قد أرسل لنا رسالة “دافئة” نوعًا ما، بينما أشارت صور السطح الأكثر قربًا وتفصيلًا إلى عالم مركّب مشابه للأرض أكثر من الكويكبات والمذنبات الصغيرة، “إنه عالم شديد الثراء والتنوع من حيث سطحه وتركيبه،” هكذا قال ويل جروندي، قائد الفريق المسؤول عن دراسة تكوين السطح.
ألان ستِرن، رئيس المهمة، قال بأن الأمر على الأرجح لن يتوقف عند هذه النقطة، بل قد يصل إلى اكتشافات بوجود مياه تحت هذه الجبال، وربما نشاطات بركانية جليدية، كما أن غياب أي فوهات أو تشققات بالكوكب تشي بأن عمره لا يتجاوز مائة مليون سنة، وأنه حديث التكوين مقارنة بتاريخ المجموعة الشمسية الطويل، وبالتالي لم يتعرض للحوادث الأليمة التي شهدتها الأرض، مثل سقوط النيزك الذي أدى لانقراض الديناصورات (كما تقول معظم النظريات)، أو الارتطامات المستمرة التي تعرض لها سطح القمر وخلقت فوهات كبيرة نرى بعضها من الأرض أثناء اكتماله كل شهر.
فيديو يوضح جزءًا من السطح وعليه القمم الجليدية
أيضًا، يشي سطح الكوكب الأحمر والمشابه للمريخ بأن هناك مركبات عضوية عليه، كما يقول الفلكي ستيفن تيجلر الذي يساهم في أبحاث الفريق، أضف لذلك أن القمر الكبير شارون أبدى معالمًا شبيهة بأقمار كوكبي زُحَل وأورانوس، حيث أظهرت الصور وجود أودية عليه يصل عمقها لأكثر من عشرة كيلومترات، والتي يحاول العلماء الآن فهم كيفية تكوينها، وبعض التلال والهضاب، كما توجد بقعة سوداء مريبة في شمال القمر سُميت بـ”موردور،” لا تزال هي الأخرى تبحث عن تفسير.
ولا ننسى بالطبع أن بلوتو يمتلك أربعة أقمار صغيرة أخرى، هي ستيكس ونيكس وكيربيروس وهيدرا، والتي لم تحصل لها المركبة سوى على صور غير واضحة بما يكفي نظرًا لصغرها الشديد مقارنة بشارون، حيث تبدو بالمقارنة وكأنها كُتَل صخرية ولا يتجاوز قطر أي منها المائة كيلومتر، فقُطر أكبرها وهو هيدرا حوالي 40 كيلومتر، ثم نيكس 16 كيلومتر، وكيربيروس 15 كيلومتر، وستيكس من 4 إلى 14 كيلومتر فقط.
القمر شارون، وبقعة موردور السوداء في شماله
بلوتو: كوكب أم كويكب؟
حين أطلقت ناسا المركبة عام 2006، كان بلوتو لا يزال كوكبًا طبقًا لتصنيف الاتحاد الدولي للفلك، بيد أنه بعد ستة أشهر كان قد نقل بلوتو من مصاف الكواكب إلى الكويكبات لعدم استيفائه لشروط الدخول لقائمة الكواكب، وهي ثلاثة شروط: أن يكون جسمًا يدور حول الشمس، وأن يكون كرويًا بشكل كبير، وأن يكون بسبب جاذبيته القوية قد مسح مداره تمامًا من أي تشكيلات صخرية ترتطم به.
كان الشرط الأخير هو الذي لم يجده الاتحاد في بلوتو، ليقوم بشطبه من القائمة، وهو قرار تحفّظ عليه بعض الفلكيين، ومنهم ألان ستِرن رئيس مهمة نيوهورايزنز، لا سيما وأن جاذبية الكواكب أحيانًا ما تجذب تلك الأجسام، كما هو الحال مع كوكب المشترى الذي يضم مداره بعض الكويكبات، وكوكب نبتون الذي يتقاطع مداره في الحقيقة مع كوكب بلوتو.
صورة بالأشعة تحت الحمراء لبلوتو وقمره شارون التقطتها نيوهورايزنز
على ما يبدو إذن أن صِغَر حجم بلوتو، والذي يبلغ قطره 2370 كيلومتر فقط ومساحته مساحة روسيا، وحقيقة أنه يدور حول قمره بشكل كبير كما يدور قمره حوله نتيجة تقارب حجميها وقوتيهما الجاذبية، قد جعله أصغر من اللازم ليتم اعتباره كوكبًا ليس إلا، وهو ما يرى ستِرن وأنصاره أنه سبب غير كاف لهذا التصنيف.
يرى البعض أن المسألة لا يجب أن تكون علمية صارمة، وأن التاريخ الثقافي لعلم الفلك يجب أن يحظى بثِقَل في اتخاذ قرارات كتلك، لا سيما وأن لبلوتو واكتشافه تاريخًا كبيرًا في ثقافتنا الفلكية، وهو أمر ستعززه على ما يبدو المرحلة المقبلة التي سيتجه فيها اهتمام الفلكيين والعامة على السواء لبلوتو وجماله ككوكب كما تقول الصور، والظواهر العجيبة التي سترصدها المركبة بينما تظل بالقُرب من بلوتو كما فعلت بالأمس حين التقطت لونه الأحمر وصورة القمم الجليدية على سطحه، ومعالم قمره المشابهة لأقمار كواكب أخرى.
القمم الجليدية على سطح بلوتو
“عالم بلوتو وشارون مختلف جدًا جدًا.. إنه لغز حقيقي،” هكذا تحدث ألان ستِرن بينما أشار لبلوتو بوضوح ككوكب في المؤتمر الصحافي الذي عقدته ناسا بالأمس، غير مبالٍ بما قرره الاتحاد الدولي للفلك، ومحاولًا أن يقرّ في الحقيقة ما لا يزال الكثيرون يعتقدونه ويؤمنون به في ثقافة تناول الفلك ومعارفنا عن المجموعة الشمسية، بعيدًا عن الدوائر العلمية الأكاديمية، أن بلوتو في نظر الملايين لا يزال كوكبًا بالفعل.
لربما كان ستِرن يقول أنه مثله مثل العامة ممن لم تصلهم أخبار شطبه من قائمة الكواكب الأكاديمية من الأساس، وكأنه يضرب عرض الحائط ما يخطّه الاتحاد على الورق، ويقول للمهووسين بالتصنيفات العلمية في أبراجهم العاجية أن الحُجة القائلة باقتصار العلم على العلماء ليست بالضرورة صحيحة، على الأقل فيما يخص مسألة رمزية وذات دلالة ثقافية كبيرة كهذه، وها هو عالم ذي قامة كبيرة مثلي يقول على الملأ في مؤتمر تاريخي أن بلوتو كوكب لا كويكب.
#Pluto salute! @BillNye with @AlanStern, principal investigator of @NewHorizons2015 @JHUAPL (photo by @navidj) pic.twitter.com/J4JRg23xGx
— Planetary Society (@exploreplanets) July 14, 2015
ألان ستِرن (يسار) ومقدم البرامج العلمية بيل ناي يشيران بأصابعهما إلى رقم تسعة في إشارة إلى اعتبار بلوتو الكوكب التاسع
بينما تتوالي علينا الصور والدراسات خلال الأسابيع المقبلة، قد نكون على موعد مع إعادة الاعتبار الأكاديمي لبلوتو ككوكب تاسع في مجموعتنا الشمسية، لا سيما وأنه قد كشف عن قلبه حرفيًا وأظهر ملامح تليق بكوكب له أقماره أكثر منها بكويكب صغير.