ترجمة وتحرير نون بوست
منال وأحمد لا يبدوان متشابهان البتة، منال تحمل طفلها الرضيع، الذي يلعب بطيات حجابها، أما أحمد فيلوح وجهه في الأفق من خلال صورة خلف منال، مع قبعة يضعها فوق رأسه؛ منال هي أم شابة خجولة، أما أحمد فهو رجل شاب وعدواني، ولكن على الرغم من الاختلافات الشاسعة ما بين أحمد ومنال، بيد أنهما ذات الشخص، “هذا” تقول منال مشيرة إلى صورة أحمد “هو أنا، ولكنني أرتدي ملابس الذكور”.
في ملجأ للنساء المشردات في الفسطاط جنوبي القاهرة، وهو أقدم حي في العاصمة المصرية، وبالقرب من أقدم مسجد في القاهرة، هناك عدد قليل من النساء في الملجأ هنا، واللواتي يطرحن مثالًا على ظاهرة أكثر معاصرة، ظاهرة فتيات الشوارع، اللواتي يرتدين أحيانًا كالرجال؛ فمنال، 23 عامًا، هي أم لثلاثة أطفال، جميعهم ولدوا في الشارع، حيث أصبحت منال مشردة عندما كانت بعمر الـ8 سنوات فقط، وبسن الـ10، قامت بحلق رأسها، وارتدت ملابس صبيانية، وبدأت تعمل بمهن تعتبر حكرًا على الرجال المصريين، حيث عملت في مقهى، وقادت سيارة توك توك، وكان الأشخاص الذين لا يعرفونها ينادونها باسم أحمد، وفعلًا التصق هذا الاسم بها.
“الصبيان يحصلون على الحرية الكاملة في الشوارع، ولكن الأمر مختلف بالنسبة للفتيات”، تقول منال، وتتابع “لقد اخترت أن أصبح ذكرًا”.
في محاولة لفهم هذا التصرف، علينا أن نستوعب ماذا يعني أن تكون طفلًا تعيش في شوارع مصر؛ فحول دول العالم يعيش الكثير من الشباب بلا مأوى، بما في ذلك 1.6 مليون مشرد في الولايات المتحدة وحدها، ولكن هذه المشكلة تبدو واضحة بشكل خاص في مصر؛ فالآلاف من الأطفال والمراهقين يعيشون في أزقة وشوارع القاهرة، والكثير منهم، مثل منال، يبقون في الشوارع حتى مرحلة النضوج.
العديد من سكان القاهرة، يرون المشردين عند إشارات المرور، أو على الرصيف خارج مقاهي الشيشة، وجوه مجهولة تبيع علب المناديل، أو تتسول للحصول على الفكة خارج نوافذ السيارات، قبل أن تتلاشى بغموض في زحام الشارع، يظهر هؤلاء المتشردون في مختلف مجالات حياة سكان القاهرة، والاستجابة لوجودهم المتناهي يصل إلى حدود غريبة، تتراوح بين الطروحات بعيدة المنال، كإنشاء مدينة خاصة فقط للمشردين، إلى الحلول المروعة، كالحل الذي اقترحه أحد الصحفيين في صحيفة مشهورة، والذي فُهم منه دعوته إلى ممارسة حملات تطهير واسعة النطاق يتم من خلالها إعدام أطفال الشوارع كما تقتل الكلاب الضالة.
مأوى آمن: أطفال شوارع يستلقون في قرية الأمل في المقطم
وسط الظلال والبكاء، نادرًا ما يعلّق الأشخاص المعنيون بالأمر على هذه الأوضاع، وفي خضم محاولاتنا لسماع قصصهم، تواصلنا مع منال ورفاقها، ومع الأخصائيين الاجتماعيين والأطباء النفسيين الذين يعملون معهم، وذهبنا إلى المدارس والملاجئ التي يعيش فيها بعضهم، وهذا العمل قادنا من الشوارع التي تقبع في ظل القصر الرئاسي في مصر، مرورًا إلى الطرقات المؤدية إلى الأهرامات، ومنحدرات المقطم، وانتهاءً بمدينة الفسطاط القديمة.
هناك في الفسطاط، حيث بُنيت العاصمة الإسلامية القديمة لمصر، ووسط ازدحام الشوارع، يقبع بناء مؤلف من أربعة طوابق، ورغم أنه لا يحمل أي علامات مختلفة تميزه عن بقية الأبنية في الشارع، بيد أن له أهمية خاصة بالنسبة للأطفال والشابات اللواتي ينمن في العراء، فهو أحد مراكز جمعية بناتي، وهي جمعية خيرية مخصصة لفتيات الشوارع، توفر مسكنًا نهاريًا، وأحيانًا ليليًا، لأمثال منال وصديقتها هديل.
مع ذكائها المتقد وابتسامتها اللطيفة، لا تعطي هديل انطباعًا عن الحياة الصعبة التي تقاسيها، ولكن قصتها تحمل تلميحات حول تعقيد وصعوبة الحياة في الشوارع؛ فهديل هربت من منزلها حينما كانت في الثامنة من عمرها، وإبان مرور عقدين من الزمن على هذه الحادثة، لا تزال هديل مشردة بلا مأوى، هديل تزوجت لمرتين على الأقل، وفي كل مرة تنتهي حكاية زواجها بعودتها إلى الشارع، وفي إحدى الحالات، انتهت الحكاية بمقتل زوجها، هذه الزيجات نجم عنها ستة أطفال أنجبتهم، اثنان منهما يعيشان معها، في حين يعيش الباقي مع جداتهم، الذين يعيشون أيضًا في الشارع، ولكون أطفال هديل ولدوا خارج المناطق المنظمة، فهم لا يمتلكون شهادات ميلاد، ولا حتى بطاقات هوية، وبالنسبة للدولة، هؤلاء الأطفال لا وجود لهم أساسًا، وسواء رغبوا بذلك أم أبوا، فلقد ورثوا حياة أمهم وجداتهم بالتشرد.
“حاليًا، نحن نعمل على حل مشاكل الجيل الثالث من أطفال الشوارع”، تقول هند سامي، وهي عاملة اجتماعية في جمعية بناتي، تعرفت على هديل منذ سنوات، وتتابع “الآن الموضوع لا يقتصر على الفتيات أو الصبيان الوحيدين في الشارع، فالموضوع أصبح يضم أسرًا، وهؤلاء الأشخاص هم بصدد تكوين أسر تعيش أيضًا في الشارع”.
عدد الأشخاص الذين يعيشون كأطفال هديل، لا يمكن الوقوف عليه بدقة؛ ففي يناير، أصدرت الحكومة نتائج المسح الحكومي التي تشير إلى أن مصر تعاني من تشرد حوالي 16.000 طفل في الشارع، ولكن هذا الرقم ينخفض بشكل هائل عن الرقم الذي قدرته اليونيسيف في آخر إحصاء لها في عام 2007، والذي يشير إلى وجود 600.000 طفل في الشوارع المصرية على الأقل.
“لا يمكنك بتاتًا معرفة العدد الحقيقي، لأنك غير قادر على تتبع هؤلاء الأطفال”، تقول نيللي علي، وهي متطوعة تعمل مع فتيات الشوارع، وتكتب رسالة دكتوراة عن تجاربهم، وتضيف “هؤلاء الأطفال يتحركون ويتنقلون، ولا يمتلكون شهادات ميلاد، ويموتون بدون أن يشعر أحد بهم”.
التناقض في هذه المسألة نابع من عدم وجود تعريف جامع مانع لأطفال الشوارع، فلا أحد يستطيع أن يحدد بدقة من هم أطفال الشوارع على أرض الواقع؛ فهناك الأطفال الذين لا يتجاوزون السادسة من عمرهم، وهنالك أطفال قاربوا عمر الـ16، ناهيك عن أطفال الشوارع المعتّقين مثل منال وهديل، وهناك أيضًا أطفال يجوبون شوارع القاهرة نهارًا، ويستجدون مدخني الشيشة لبضع قطع نقدية، قبل أن يعودوا ليلًا إلى منزل آبائهم في كل ليلة، فضلًا عن الأطفال الذين يهربون من منزلهم من وقت لآخر، قبل أن يعودوا بعد بضع ليالٍ، ومن ثم هناك أولئك الذين اختاروا بوعي مغادرة منازلهم بشكل دائم.
غادة والي، وزيرة التضامن الاجتماعي في الحكومة التي أصدرت إحصائية الـ16.000 طفل مشرد، زودتنا بالتعريف الذي تراه صحيحًا لأطفال الشوارع، أثناء احتسائنا لفنجان قهوة في مكتبها، حيث تشير إلى أن أطفال الشوارع “هم أولئك الذين غادروا المحافظة التي تعيش فيها أسرتهم، وانقطعت علاقاتهم مع العائلة، وينامون تحت الجسور، أو في المنازل الفارغة، هؤلاء الأطفال هم الأكثر عرضة للخطر، وهم الذين أحصاهم الاستطلاع”.
ولكن في حال سؤالك للناس الذين يعيشون في الشوارع أنفسهم، ستحصل في كل مرة على إجابة مختلفة؛ فمنال تعتقد بأن المفهوم هو أكثر شمولًا للغاية من المعيار الحكومي، كون الصبي الذي يقضي معظم يومه في الشارع، ويشكل جزءًا من النظام الهرمي المعقد للشارع، هو بالفعل طفل شارع، حتى لو كان يذهب إلى منزله في ليلة كل يوم، وتضيف منال قائلة “إنه جزء من مجموعة تابعة للشارع، إنه يعيش في الشارع، لذا بالطبع يجب أن تصفه بأنه طفل شارع”.
فتاة شارع أخرى تقول بأن المعيار الحكومي لأطفال الشوارع، قد أطلقه جهلة في المقام الأول، لأن هذا المعيار يعني، كما تقول نادية البالغة من العمر 15 عامًا، بأن جميع أطفال الشوارع متشابهين، ولكن، في الواقع، أطفال الشوارع يختلفون من حيث العمر والجنس والخلفية، وهذه الاختلافات تعني بأن كل طفل شارع يحوز تجربة فريدة من نوعها، “لا يوجد شيء اسمه (أطفال الشوارع)، (صبي شارع) أو (فتاة شارع)” قالت نادية لأميرة الفقي، وهي باحثة متخصصة بفتيات الشوارع، وأضافت قائلة “الشارع لا يلد، ولا يربي الأطفال، ولا يفعل أي شيء”.
ضمن ضواحي القاهرة التي تتميز بمعالمها الطبوغرافية المسطحة بشكل عام، تبرز هضبة المقطم كتلة مرتفعة بشكل غير متوقع، وفي أعلى نقطة في المقطم، يجثم أحد مراكز جمعية قرية الأمل الخيرية، وهي الجمعية الأولى من نوعها في مصر والتي تركز اهتمامها على أطفال الشوارع؛ ففي شارع سكني هادئ، يعلو المساكن التي حوله بشكل كبير، يقبع منزل يبدو وكأنه يشكّل عالمًا مستقلًا عن ضجيج القاهرة، ولكن داخل جدرانه، يأوي هذا المنزل حكايات الناس الأكثر اضطهادًا في المدينة.
ضمن هذا المركز، ترتاح عشرات الأمهات المراهقات من صخب الشارع، ويمتلكن مساحة آمنة لتربية أطفالهن، وإذا كان علينا أن نحدد النقطة التي يتحول بها بالضبط الشخص إلى طفل شوارع، فإن قصص هؤلاء النساء تزودونا بحدود أكثر وضوحًا، عن السبب الذي يدفع الكثيرين للتشرد في الشوارع في المقام الأول.
قبل سنوات من وصولها إلى قرية الأمل، غادرت مايا المنزل في الساعة السابعة، بعد أن حبستها زوجة أبيها في غرفة واحدة لمدة ثلاث سنوات، هذا المكان الذي كان عليها أن تأكل، وتنام، وتتغوط فيه، بذات الوقت، وعندما خرجت من هذا المحبس في النهاية، اضطرت لأن تصبح خادمة لدى أخواتها غير الشقيقات، وكان خطأ صغير ارتكبته في المطبخ، كافيًا ليودي بها إلى عقاب يتمثل بقيام زوجة أبيها بكسر جمجمتها بمدقة الثوم، قبل أن يجرها والدها إلى السطح، لتتلقى المزيد من الضرب، وكان هذا الموقف كافيًا لتعقد مايا عزمها على مغادرة المنزل، وهو الأمر الذي قامت به بعد فترة وجيزة.
إحدى النساء تتذكر أيامًا أفضل عاشتها
فرح، البالغة من العمر 12 عامًا، رفضت الانضمام إلى شبكة الدعارة التي يديرها عمها، ونتيجة لذلك، قيّدها عمها بالسلاسل، واغتصبها كل يوم لعدة أشهر، وفي أحد الأيام تظاهرت بأنها على استعداد لتلبية رغبات عمها الوحشية، وبمجرد قيامه بفك قيود، ركضت على الفور منطلقة بسرعة هائلة نحو النافذة الواقعة بالطابق الرابع، وقذفت بنفسها منها، لتهبط على الأرض محطمة العديد من عظامها، ولكنها نجت بأعجوبة، وتم نقلها إلى المستشفى، وبعد مغادرتها المستشفى، انتقلت إلى الشارع.
ربما من المستغرب أن يكون الفقر بحد ذاته لا يشكل عادة الدافع خلف توجه الأطفال إلى الشوارع المصرية، “الفقر هو أحد الأسباب التي تسبب العنف الأسري”، يقول محمود أحمد، مدير مركز قرية الأمل في المقطم، ويتابع قائلًا “لكنه ليس السبب الرئيسي لاتجاه الأطفال إلى الشوارع، على عكس الاعتداء الجنسي المتكرر، أو التفكك الأسري”.
“هناك الكثير من الأطفال في شوارع القاهرة يمتلكون أشقاءً ما زالوا يعيشون في منزل الأسرة”، تقول نيللي علي، التي أجرت مقابلات مع العديد من الفتيات اللواتي يعشن في قرية الأمل، والتي روت لنا قصص مايا وفرح، وتضيف “لو كان السبب الأساسي متمثل بالفقر، لكان جميع الأشقاء انتهى الأمر بهم ليكونوا في الشوارع”.
الموقف المتساهل الذي يتبناه المجتمع تجاه العنف المنزلي، هو أيضًا عامل مساهم في دفع الأطفال للهروب إلى الشوارع، فعلى الرغم من وجود قوانين تحظر تعامل أولياء الأمور مع أطفالهم بشكل تعسفي، ورغم تخصيص أرقام ساخنة للإبلاغ عن هذه الحالات، بيد أنه وفي مجتمع يتبنى ثقافة تمنح الآباء الحق في التعامل مع أطفالهم بالشكل الذي يحلو لهم، لا يتم تطبيق هذه التشريعات بالغالب، “قد يضرب رجل ابنه حتى الموت أمام ضابط شرطة في الشارع”، تقول شيماء، وهي طبيبة نفسية في مركز قرية الأمل، وتضيف “ولكن لا يتدخل أحد لأن هذا الطفل هو ابنه”.
ونتيجة لذلك، فإن الشارع قد يصبح حرفيًا هو السبيل الوحيد المتبقي أمام الأطفال المعتدى عليهم، وبمجرد أن يصبحوا هناك، يغدوا هؤلاء الأطفال لقمة سائغة لاعتداءات البالغين الآخرين من غير آبائهم.
إنها التاسعة والنصف ليلًا، وشيماء، عالمة النفس، تتمشى في الشوارع الراقية في أحد ضواحي شمال شرق القاهرة، السكان المحليون الأثرياء يحتسون هنا القهوة على طاولات المقاهي الراقية التي تغطي الأرصفة، أو يقفون في طوابير لشراء الآيس كريم من أحدة أفخم المحلات في المدينة، ولكن شيماء ليست هنا لمقابلة هؤلاء، فكما تفعل في كثير من الأحيان، شيماء تبحث في هذا الحي عن شخص مفقود، حيث تروي لنا حكاية سارة التي تعرضت للاعتداء من قِبل والديها، وأصبحت عاهرة، وانتهى بها المطاف ببيعها من قِبل قوادها لرجال من الخليج، الذين أبقوها محبوسة في شقة في القاهرة، ولكن بطريقة أو بأخرى استطاعت سارة الهرب، وبدأت في وقت لاحق بالظهور في مركز لتجمع المشردين، حيث التقت شيماء بها هناك لأول لها، ولكن سارة اختفت الآن مرة أخرى، وشيماء تسعى لكي تجدها، وبعض فتيات الشوارع أخبرنها بأن سارة قد تكون في هذا الحي الراقي في القاهرة.
ما تفعله شيماء، غالبًا ما يكون من الأعمال الخطرة للغاية، فبعد أن تأسست في عام 1988 على يد شخص بريطاني مغترب، ريتشارد هيمسلي، أصبحت قرية الأمل تدير حاليًا عدة مراكز تؤوي المشردين إما باليوم أو لمدد طويلة، بهدف إعادة تأهيل أطفال الشوارع، وتجهيزهم تدريجيًا للاندماج مرة أخرى في المجتمع، ولكن العديد من الفتيات اللواتي تقنعهن شيماء بالدخول إلى الملاجئ، لا يتحملن الروتين المفروض عليهن في هذه المراكز، ولذلك يختفين فجأة – مثل سارة – في بعض الأحيان، وأحد وظائف شيماء تتمثل بالعثور عليهن مرة أخرى.
ولكن العثور على هذه الفتيات أمر صعب ومعقد، كون إقناع فتاة شارع بالعودة إلى المأوى قد يؤدي إلى تعطيل شبكة دعارة، لذا وفي أي منطقة معينة، يجب على شيماء أن تحصل على مباركة زعيم الحي، وإلا فإنها قد تتعرض للهجوم،”إذا كنت ذاهبة لأعيد فتاة، وأنا أعلم أنه يتم تشغيلها من قِبل مجموعة من الرجال، فسأصبح فورًا هدفًا للتصفية، لأنني سأقوم حينئذ بسلبهم أحد مصادر دخلهم” تقول شيماء.
في بعض الأحيان يأتي المهاجمون إلى الملاجئ ذاتها، ففي إحدى الحوادث، دخل أربعة رجال إلى المأوى، وهم يحملون السواطير، وهددوا بأنه في حال عدم إعادة فتاة معينة، سيقومون بقطع رؤوس الجميع، وأحيانًا يأتي التهديد من الفتيات داخل الملاجئ أنفسهن؛ ففي أحد نوبات كراهية الذات، انسحبت إحدى المراهقات من أحد الاجتماعات في المأوى، وأخرجت شفرة وبدأت بجرح نفسها، كما قامت بجرح شيماء عندما اقتربت منها.
بطبيعة الحال، شيماء وزملاؤها في قرية الأمل يجرون فحوصات دورية نصف سنوية للفتيات داخل الملجأ، ويطعموهن بلقاحات ضد الأمراض المختلفة، حيث إن بعض الفتيات كن مصابات بفيروس الإيدز، وبعضهن كن مصابات بالتهاب الكبد من النوع C.
طبيبة تقوم بإجراء فحوصات على سيدة بقرية الأمل
الكثير من الأشخاص الذين يعملون في قرية الأمل، يحملون في أذهانهم ذكريات خاصة، تساعدهم على الحفاظ على حماستهم ودوافعهم للقيام بهذا العمل المرهق، وبالنسبة لشيماء، هذه الذكرى تتمثل بصورة طفلة من أوائل المرضى الذين تعاملت معهم، حيث كانت طفلة تبلغ من العمر تسع سنوات، جاءت إلى المركز إثر تعرضها لحادثة اغتصاب جماعي في الشارع، “بعد كل هذه السنوات، ما تزال تلك الفتاة هي التي تعطيني الدافع والمحفز”، تقول شيماء، التي كانت تعتقد أن هذا العمل لا يلائمها، حتى شاهدت الطفلة ذات التسع سنوات تلعب في المركز، “لا أستطيع أن أنساها حينما جلست ببراءة على الأرجوحة، في الوقت الذي كانت فيه ما تزال تنزف جرّاء حادثة الاغتصاب”، قالت شيماء مع مشاعر تأثر بادية عليها بوضوح.
الاغتصاب وممارسة الجنس بالإكراه هما الحقيقتان المنتظمتان الدائمتان اللتان تحكمان حياة معظم أطفال الشوارع، فكثير من فتيات الشوارع في سن المراهقة يعملن في الدعارة، وحتى خارج شبكات الدعارة الرسمية، يمكن أن يصبح الجنس عملة للدفع؛ فبغية تأمين مساحة للنوم على الأرض ليلًا، أو للوصول إلى أحد المراحيض الخاصة، يعمل الأطفال في الشوارع على تقديم الجنس لصاحب المتجر أو المسؤول ثمنًا لهذه الخدمة، كما أصبح من المعروف على نطاق واسع أن يعمد أطفال، أعمارهم لا تتجاوز السادسة أحيانًا، على تقديم خدمات جنسية للعمال الذكور في بعض الملاجئ، وتجاربهم المريرة التي خاضوها في الشارع، حيث يتعرضون بشكل متكرر وروتيني لسوء المعاملة، جعل هذا السلوك يبدو عاديًا من وجهة نظرهم.
في الشارع، يتم اغتصاب الأطفال من الفتيات والذكور من قِبل مجموعات من الرجال، وهؤلاء الجناة واثقون من أنهم سيفلتون بفعلهم هذا بدون العقاب، كون الأطفال المغتصبين لا يحوزون أوراقًا رسمية، ولا يمتلكون عائلات أو أقارب، لذلك من الناحية الفنية، لا يمتلك هؤلاء أي وضع قانوني يسمح بملاحقة أو بمعاقبة الجناة، ووفقًا للعاملين في جمعية بناتي، يتم في كثير من الأحيان حبس الفتيات في سجون مؤقتة لعدة أيام، قبل أن يتم اغتصابهن بشكل جماعي.
الوحشية لا تنتهي بالاغتصاب بحد ذاته، فبعد أن يتم اغتصاب الضحية العذراء، يعمل المغتصبون في كثير من الأحيان على إحداث ندبة غائرة على وجه الضحية، تحت عين الضحية بمسافة صغيرة، وإبان عدة اغتصابات لاحقة، يمكنك أن ترى مجموعة من الندوب العمودية الغائرة على خد الطفلة.
لذا، هربًا من أعمال العنف، تتجنب الفتيات النوم ليلًا، أو ببساطة لا ينمن على الإطلاق، “بإمكاني أن أبقى مستيقظة لمدة ثلاثة أيام أو خمسة أيام”، قالت ياسمين، 16 عامًا، لأميرة الفقي، أما الفتيات الأخريات فيتبعن آلية دفاع عن النفس مختلفة، تتمثل بتحولهن إلى ذكور في الشارع.
منذ حوالي 10 أعوام، وصل صبي مشرد إلى مأوى في شوارع القاهرة، قائلًا أنه ينزف حتى الموت، الصبي كان وجهًا معروفًا في الملجأ، وهرع إليه حينها الأخصائيون الاجتماعيون، وحولوه إلى الطبيب لمعرفة سبب المشكلة، ونتائج الفحص الذي أجراه الطبيب حينها، كشف عن مفاجآت غير متوقعة، فأولًا، كان سبب النزيف هو الدورة الشهرية، وثانيًا، الصبي هو في الواقع فتاة، وصلت إلى المأوى منذ عدة أشهر، حيث عمدت إلى قص شعرها بالكامل، وحزمت صدرها بشدة، بغية عدم استقطاب الاهتمام غير المرغوب به في الشوارع، ولتأمين وصولها إلى ملجأ مخصص للذكور فقط، كونه وقبل بضع سنوات، كان نشطاء حقوق الطفل والأخصائيون الاجتماعيون في مصر، يعتقدون بأن الذكور هم الوحيدين الذين يصبحون أطفال شوارع، ولكن نزيف هذه الأنثى/ الذكر كشف خلاف ما كان متصورًا.
“لقد كانت هذه وسيلتنا لحماية أنفسنا”، تقول هديل، فيما كان ابنها يختلس النظر من الغرفة المجاور، وتابعت “لقد اعتدنا على قص شعورنا، وكنا نرتدي السراويل والقمصان الرجالية، والهدف من ذلك أساسًا لكي لا يأتي رجل ويقول: أرغب هذه الفتاة، أو أريد أن آخذ تلك الفتاة”.
بالنسبة لبعض الفتيات، لا يقتصر الهدف على تجنب الاعتداء الجنسي، بل أيضًا لممارسة حياتهم براحة أكبر في المجال العام المصري، وهو المجال الذي يتم اعتباره تقليديًا في مصر على أنه حكر للذكور، فالظهور بمظهر الذكر، يتيح للفتيات التدخين، الصراخ، أو ببساطة الجلوس في الشارع، وهي أعمال يستطيع الذكور القيام بها بسهولة ودون أي لوم، على عكس الفتيات.
توضح ذلك أميرة الفقي، وهي أكاديمية سبق لها البحث في هذا الموضوع، بقولها “جميع الامتيازات التي يمتلكها الذكور، تصبح مفتوحه أمامهن، إنهن يسخرن من فكرة التمييز الجنسي بشكل كامل، ويقلن: هل تعتقد بأني امرأة ضعيفة؟ حسنًا، أنا لن أعود امرأة بعد الآن”.
وبغية حماية أنفسهن بشكل نسبي، قد تعمد فتيات الشوارع إلى الانضمام إلى ما يسميه الباحثون بـ”أسرة الشارع”، وهي مجموعة مختلطة بين الجنسين مؤلفة من حوالي 10 أطفال شوارع، يعمل فيها أعضاء “العائلة” على حماية بعضهم البعض، ويتشاركون دخلهم، وعادة ما ينامون معًا لدواعي السلامة، وفي كثير من الأحيان يتم تقسيم العمل بينهم على أساس الجنس، “الذكور يضطلعون بأعمال النشل، والفتيات يمارسن الدعارة”، تقول نيللي علي، والأرباح الناجمة عن كل يوم عمل، يتم تسليمها عادة لزعيم الأسرة، والذي غالبًا ما يكون ذكرًا أثبت نفسه بأنه أقوى من الآخرين.
“من المستغرب أن الزعيم قد يكون في كثير من الأحيان أصغر من باقي أعضاء الأسرة”، يقول محمود أحمد من جمعية قرية الأمل، والذي بحث في بنية أسرة الشارع لعدة سنوات، ويتابع موضحًا “الزعيم هو الشخص الذي يثبت للآخرين بأنه قادر على فعل أمور لا يستطيع الآخرون القيام بها، وهذه القدرات الفريدة قد تكون قدرات عملية، تتمثل بكونه نشالًا أكثر احترافًا من أي عضو آخر، أو قد تكون مهارات بدنية، كقدرة الزعيم على القفز من فوق جسر دون كسر عظامه، وهذه القدرات تستقطب احترام الأقران في أسرة الشارع بسرعة كبيرة”.
لكن الزعيم يحظى بأمور تفوق مجرد الاحترام، فكلمته بين أعضاء الأسرة نهائية ومسموعة، وأفراد الأسرة يدافعون عنه بحياتهم، وبالمقابل، يعطي الزعيم أسرته هوية جماعية، ويوفر لها حماية ضد الغرباء، ولكن داخل الجماعة ذاتها، الزعيم يشكل التهديد الأكبر، “إن الزعيم يمتلك الأعضاء الآخرين جنسيًا، سواء الذكور أو الإناث”، يقول أحمد، ويتابع “يعمد الزعيم إلى ترك ندبات الممارسة الجنسية على الأعضاء بشكل مستمر”، ولكن بالنسبة للفتيات، الندبات ليست هي التذكير الوحيد الذي يتركه الزعيم، بل البطون الحبلى قد تمثل التذكير الأعظم.
وقت اللعب: فتاة تلعب خلف ستارة بقرية الأمل، فهناك العديد من الأمهات المراهفقات وأطفالهن
مستشفى عين شمس، المتوضع في إحدى ضواحي شمال شرق القاهرة، ليس بالعادة الخيار الأول للأمهات الحوامل، فكونه مستشفى تعليمي، تتم الكثير من العمليات التي تجري ضمنه في حضور حشد من الطلاب، ونتيجة لكونه مستشفى تعليمي، فإنه يعاني من نقص بالتمويل، حتى أن الأطباء في كثير من الأحيان يضطرون لدفع ثمن المعدات، بما في ذلك عمليات نقل الدم، من نفقتهم الخاصة.
ولكن مستشفى عين شمس، والمستشفيات التعليمية الأخرى، غالبًا ما تكون الخيار الوحيد للأمهات اللاتي يحبلن وهم مشردات، كون هذه المشافي تقدم عملياتها بأجور أرخص بكثير من معظم المستشفيات الأخرى، حيث إن تكاليف الدخول لا تتجاوز الـ120 جنيهًا مصريًا (حوالي 10 جنيه إسترليني)، وهو مبلغ أقل بكثير حتى من تكلفة المستشفيات الحكومية في المدينة.
ولكن بالنسبة للنساء اللواتي يعشن في الشوارع، تضحيات الولادة في مستشفى عين شمس، تتجاوز مبلغ الـ120 جنيهًا، لتصل إلى حد امتهان كرامتهن، كون الكثيرات منهن لا يحملن بطاقات هوية أو تعريف، ولذلك لا يمكنهن الوصول إلى المستشفى إلا مع مرافق ذكر، وهو الشخص الذي يمثل دور الزوج، ولكن إذا كانت هذه النساء ضحايا لاغتصاب جماعي، فإنهن لن يستطعن التعرف أو الوصول إلى الأب، وحتى تستطيع هذه النساء الدخول إلى المشفى، يتوجب عليهن الخضوع لاستجواب يتطفل بشكل صارخ وينتهك حياتهن الشخصية، ومن بعدها يأتي العمل الطويل المؤلم، الذي لا يترافق في بعض الأحيان سوى مع عدد قليل من المسكنات في غرفة الانتظار المكتظة ضمن المستشفى، قبل أن تحل أخيرًا عملية الولادة المهينة بحد ذاتها، والتي قد تحدث في وجود، وأحيانًا بمشاركة، 20 طالبًا.
“تسلسل الأحداث هذا مؤسف للغاية”، تقول يارا يونس، وهي طبيبة حديثة، تناضل لتحصل النساء المشردات الحوامل على معاملة أفضل في مستشفى عين شمس، وتتابع قائلة “تقضي المرأة الحامل المشردة 12 ساعة وهي تتألم ولا يتم تزويدها سوى بقارورة واحدة فقط من المسكنات، ومن ثم يقوم 20 شخصًا بوضع أيديهم داخل المرأة، في الوقت الذي يسألها فيه آخرون عن سبب وجودها هنا، ومن ثم ربما يقول البعض الآخر لها: لماذا تصرخين؟ توقفي عن الحبل حتى لا تصرخي مرة أخرى، لقد سمعت هذه العبارة أكثر من مرة، كما رأيت أشخاصًا يضربون النساء على أرجلهن لمنعهن من الصراخ”.
بعد ولادة الأطفال تبدأ دورة حياة أخرى من التشرد، والنشطاء في قرية الأمل يعتقدون بأن 20% فقط من الفتيات المشردات اللواتي تعمل الجمعية على تأهيلهن، تمكّن من مغادرة الشوارع، وبالنسبة لأطفالهن، الذين يكونون أقل احتمالًا لحمل بطاقات هوية أو تعريف، والذين لم يعرفوا سوى حياة الشارع، عملية التأهيل هي بالفعل أشد صعوبة.
منال تمكنت من ترك حياة الشارع، وتركت ورائها أيضًا شخصيتها الذكورية، والآن تعيش في المأوى الذي تقدمه لها جمعية بناتي، ولكنها تمكنت فقط من جلب طفل واحد من أطفالها الثلاثة معها، أما الولدان الآخران فهما يعيشان مع جدتهما المشردة، ويقول الأخصائيون الاجتماعيون بأنهما يتجولان في المدينة كل يوم ويعملان ببيع المخدرات.
“هذا لم يحدث لكون منال لا تهتم بهما”، تقول هند سامي، مرشدة منال في جمعية بناتي، وتتابع “بل إنها تبذل قصارى جهدها، ومثل جميع أمهات الشارع، منال تمتلك شعورًا إنسانيًا عميقًا جدًا في مغاور نفسها، وحتى لو تركت أطفالها، فإنها لا تزال تريد أن تكون قادرة على رؤيتهم، ولا تزال تسعى لتكون قريبة منهم”، وتردف سامي موضحة “عندما نتكلم عن هؤلاء الفتيات، لا ينبغي أن ننسى أنهن بشر، ولو مررنا بما مررن به من إساءة، قد يكون أي أحد منا في مكانهن”.
المصدر: الجارديان