يأتي الاتفاق النووي بين إيران والقوى الست الكبرى والذي تم الإعلان عنه في 14 تموز/يوليو 2015 منسجماً مع التوجهات الاستراتيجية للسياسة العالمية الجديدة للولايات المتحدة الأمريكية والتي تبنتها إدارة الرئيس أوباما مطلع ولايته الثانية عام 2013. وتتمحور السياسة الجديدة والتي عرفت بـ”التوجه الآسيوي” (Asia Pivot) حول تركيز الولايات المتحدة على العلاقات الإقتصادية والإستراتيجية بدول القارة الآسيوية وأستراليا، وبالأخص منطقة جنوب شرق آسيا وبحر الصين. وتكمن محركات هذه السياسية في الفرص الإقتصادية التي توفرها هذه المنطقة والتي تستحوذ على أكثر من 50% من التجارة العالمية، بالاضافة إلى البعد الاستراتيجية المتمثل باحتواء الصين التي باتت سياستها في بحر الصين الجنوبي والشرقي تثير قلق الولايات المتحدة وحلفائها الآسيويين.
كان على واشنطن لتحقيق تقدمٍ ملموسٍ في سياستها الجديدة أن تقلل من إلتزاماتها الدولية في مناطق أخرى في العالم، وقد كانت منطقة الشرق الأوسط ومنطقة وسط وغرب آسيا من ضمن المناطق الأولى المعنية حيث سحبت أمريكا قواتها من العراق، وبدأت عملية تقليل انخراطها العسكري في أفغانستان تمهيداً للإنسحاب المباشر، مع فتح قنوات دبلوماسية مع حركة طالبان. أما في منطقة الخليج فقد تبنت الولايات المتحدة مقاربة جديدة للتعامل مع إيران وملفها النووي تقوم على مبدأ الانخراط الدبلوماسي (Diplomatic Engagement) للوصول لتسوية معينة بدلاً من السياسات التي كانت تعتمدها في السابق والتي بنيت على مبدأ العزل والاحتواء والعقوابات الاقتصادية والتي وإن كانت لها آثاراً سلبية على الاقتصاد الإيراني إلا أنها فشلت في تحقيق هدفها الأساس وهو عرقلة المشروع النووي لإيران.
وكان من مقتضيات سياسة التخفيف من الالتزامات الدولية العودة إلى سياسة موازنة القوى عبر المحيطات (Offshore Balance of Power Policy) وذلك من خلال الاعتماد على وكلاء أو حلفاء إقليميين للحفاظ على المصالح العليا للولايات المتحدة الأمريكية. ولهذه السياسة مثال من الماضي. في السابق عندما كانت أمريكا منخرطة في حربها مع فيتنام ضمن مساعيها لإحتواء التمدد الشيوعي، اعتمدت على كل من إيران والسعودية في منطقة الخليج للحفاظ على مصالحها وفق سياسة ما كان يعرف بالدعامة المزدوجة (Dual-pillar Policy)، اليوم وفي ظل تطلع “البيت الأبيض” إلى آسيا من جديد للحفاظ على سيادتها الدولية، وذلك من خلال تحدي الصعود الصيني واحتوائه، يجد أنه من الضروري إعادة تشكيل خريطة تحالفاته في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي للتفرغ لما هو أهم، وهذا لا يعني أن منطقة الشرق الأوسط فقدت أهميتها في نظر الولايات المتحدة ولكن في علم السياسة هناك دائماً سلم أولويات، وأولوية واشنطن اليوم هي الصين وليست إيران؛ هي جنوب شرق آسيا وليس الشرق الأوسط. في نهاية المطاف فإن الدولة الوحيد القادرة على تحدي زعامة الولايات المتحدة في العالم هي الصين وليست إيران!
أثبتت طهران في نظر الإدارة الأمريكية أنها لاعب مهم، ودولة يمكن الاعتماد عليها (ربما من المفيد الإطلاع على حجم المديح الذي كاله الرئيس أوباما لإيران تاريخاً وحضارةً في مقابلته مع توماس فريدمان ونشرتها The New York Times في 14/7/2014 تحت عنوان “Obama Makes His Case on Iran Nuclear Dear” وبذلك تأهلت من جديد لأن تكون الداعمة الأولى في استراتيجية أمريكا في المنطقة (يعود الفضل لتنظيم الدولة الذي عزز من قيمة إيران الاستراتيجية في السياسة الأمريكية) وهو ما يعني أن الاتفاق النووي الذي أزال أكبر العقابات في طريق التقارب مع إيران ربما يكون بداية مسيرة قد توصل البلدين إلى التطبيع الدبلوماسي الكامل بينهما بعد قطيعة استمرت أكثر من ثلاثة عقود، وما يدعم هذا الافتراض تصريح الرئيس أوباما في كلمته التي أدلى بها في 14/7/2015 للدفاع عن الاتفاق: “بأنه [الاتفاق] يمنح فرصة للسير في اتجاه جديد. يجب أن نستغل ذلك”. ربما يكون من المبكر الحديث عن ديناميكات التقارب الجديدة بين البلدين، والمدى الزمني الذي سوف يستغرقه، ولكنَّ المهم في الأمر أن المسيرة بدأت، ودائما ما كانت تأخذ المسارات الاستراتيجية وقتاً طويلاً لتظهر نتائجها، والاتفاق النووي الإيراني بني في الأساس وفق المسار الجيو- استراتيجي طويل الأمد.
ولكن السؤال الآن من هي الدولة التي يمكن أن تشكل الدعامة الثانية؟ السعودية أم إسرائيل؟ تبدو الإجابة في هذا الوقت مستعصية ولكن نظراً لحالة الفوضى والحرب بالوكالة التي تجتاح منطقة الشرق الأوسط فإن نجاح سياسة الدعامة المزدوجة من جديد مرتهن بتخفيف حدة التوتر في المنطقة بين المحورين الذين تقودهما إيران والسعودية، وبناء على ذلك فإن السعودية قد تكون هي الدولة الأقرب لأن تضطلع بمهمة الدعامة الثانية، ولكن هنا يجب على الولايات المتحدة أن تلعب الدور الذي لعبته بين إسرائيل ومصر في كامب ديفيد عام 1979 وتنقل الصراع بين السعودية وإيران من حرب باردة إلى سلام بارد، وبذلك تكون قد وضعت اللبنة الأخير لنجاح سياستها في الشرق الأوسط للتفرغ أكثر لآسيا والقوة الأكبر فيها؛ جمهورية الصين الشعبية.