ولئن كانت هذه الدفوعات غير جديدة، غير أن ما هو جديد وملفت للنظر أن مرددي هذه المقولات الآن ليسوا من أعداء الثورات وخصوم الربيع العربي، بل من داعميه والسعيدين به بادي الرأي.
فما الذي حصل حتى تغير رأي الكثيرين، من مبشر بالخلاص والحرية إلى محذر من الفوضى والفشل؟ كيف يتحول مفتخر بثورة أهله وشعبه إلى خجول من واقعها؟ وكيف يمكن لمن رأى في الربيع العربي نقطة تحول في تاريخ المنطقة والعالم أن يراه الآن نذير شؤم ودمار على البلاد والعباد؟؟؟
أزعم أن السبب هو أن ارتباط البعض بهذه الموجة من الثورات (بعيداً عن الخلاف حول التسمية) كان ارتباطاً عاطفياً أكثر منه عقلانياً، إضافة إلى جهل بسيرورة وصيرورة الثورة عبر التاريخ، ما يجعل تقييم البعض لها ريشة لا وزن لها في مهب المخططات المخابراتية وأدواتها الإعلامية المتنفذة.
لقد أدى التفاعل العاطفي مع الحراك الشعبي في غير بلد عربي إلى تشكل صورة وردية لها، جعل البعض ينتظر قطف ثمارها سريعاً جداً، فلما اصطدم الواقع بعوائق الدولة العميقة، وجدران التدخل الخارجي، وحواجز قلة الخبرة وضعف التنسيق، وجد البعض (وليس عددهم بالقليل) أنفسهم أمام صدمة أدت إلى ردة فكرية على مستوى الثقة بالثورات والشعوب التي قامت بها، نفخ في نارها ما شاهدناه من تأييد قطاعات لا يستهان بها من الأفراد والنخب لمحاولات الارتداد على ثورة، تآمراً أو تشويهاً أو انقلاباً.
كما أن عدم الإلمام بتاريخ الثورات ومراحلها ومآلاتها قد أدى إلى فهم خاطئ للتحولات الحالية في المشهد العربي، بما يوحي بالفشل والنكوص يأساً وإحباطاً. إن نظرة تاريخية تحليلية للثورات عبر التاريخ يوضح بما لا يدع مجالاً للشك أنها أكبر وأعمق وأعقد من هبة شعبية تطيح برأس نظام في أيام معدودات، بل هي – في الغالب الأعم – موجات من الثورات تجترح إنجازات تراكمية عبر مراحل متعددة.
إن الثورة الفرنسية (المثال النموذجي للثورة في العصر الحديث) لم تنجز في سنة أو سنتين، بل مرت عبر عشرات السنوات بمراحل متعددة (تقدماً وتأخراً)، بدءً بالجمعية التأسيسية ثم فترة اليعاقبة، مروراً بمراحل القنصلية والامبراطيورية وبناء ملكية آل بوربون، ثم الملكية الدستورية والجمهورية، ثم الامبراطورية مجدداً. كل هذه المراحل وغيرها، هي في الحقيقة – مجتمعة – الثورة الفرنسية الشهيرة، التي امتدت على فترة تناهز المئة عام واقتنصت في كل مرحلة منها مكتسباً أو أكثر، أوصلتها في النهاية إلى منجزاتها النهائية ومخرجاتها الثورية. وليست الثورة الفرنسية بدعاً من الثورات في هذا المدار، بل سارت الثورة البلشفية وغيرها على نفس المنوال باختلافات جزئية تفرضها بالضرورة ظروف وشروط كل بلد من البلدان.
إن أكثر ما يمكن أن تشبَّه به الثورات هو دوري كرة القدم. فلا يحسم الأمر بمباراة أو اثنتين، بل بمباريات عديدة في تواريخ وأماكن (ملاعب) مختلفة، تحت ظروف متنوعة، وأحياناً بلاعبين مختلفين، يحصل الفريق في كل منها على نقطة أو أكثر، وسيفشل بالتأكيد في بعضها، ليحسب له في نهاية الدوري ما جمعه من نقاط على مدى أسابيع وشهور الدوري.
فإذا ما طبقنا هذه النظرية على ثورات الوطن العربي، سنجد أن أكثرها فاز في المباراة الأولى (إزالة رأس النظام وإرباك المشهد)، بينما خسر أو يكاد في الثانية (الثورة المضادة)، فهل يكفي ذلك لنشر اليأس والإحباط، وإعلان الانسحاب والتراجع؟ وهل يبدو منطقياً لمن أنجز إنجازاً بضخامة إزالة رأس النظام في أكثر من دولة (فوز كاسح في مباراة) وقاوم وما زال مشروع الردة عن الثورة في غير دولة (اللعب برجولة رغم الخسارة في مبارة ثانية)، هل يليق به أن يرفع الراية البيضاء ويتبرأ من ربيعه وثورته؟
إن خسارة مباراة أو مرحلة قد تفرض تغيير المدرب أو بعض اللاعبين، وربما تغيير الخطط، وغالباً تحفيز الفريق ولاعبيه، وبالتأكيد مراجعة الأداء وتحسينه، لكنها لا يمكن ولا يجب أن تضطر الفريق إلى الانسحاب من الدوري، من أول أو ثاني مباراة، في ماراثون الدوري الطويل.
إن الإنسان عدو ما يجهل، ولعلنا بمطالعتنا ودراستنا لتاريخ الثورات وإسقاطه على واقعنا، ونشر هذا الوعي بين أفراد وأطياف الشعب المختلفة، ثم التحلي بالصبر والتعقل رغم العواطف الجامحة، لعلنا بذلك نتعرف أكثر على هذا الحدث الجلل الذي سمي ربيعاً عربياً (وقد كان حرياً به أن يسمى خريف الزعامات العربية)، فلا نعاديه من حيث أردنا أن ندعمه ونشارك به. إن نظرة متعقلة ووعياً بالتاريخ سيحملان لنا بالتأكيد تفاؤلاً وعزماً نحتاجهما أكثر من غيرهما لمواصلة الطريق، سيراً نحو إعادة المكانة لهذه الأمة ورسماً لمستقبلها المرجو بأيدي أبنائها المخلصين، متذكرين دائماً أن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، وأن من يضحك أخيراً يضحك كثيراً، كثيراً جداً.