عندما عشت في الغربة لفترة، كنت أعرف بنفسي بين الناس أني سوريّ، و كانت تلك هي هويتي، و عندما عدت إلى سوريا، أصبحت أعرف بالمدينة التي منها جاء والدي، لقد أصبحت هذه هي هويتي، و عندما قامت الثورة أصبحت أعرف بنفسي أنني مع الثورة و ضد نظام الأسد، و كذلك كان الشعب كله بغض النظر عن هوياته القديمة، فقد تبنى إما هوية الثورة أو هوية الأسد، و تلاشت كل الهويات الأخرى لتصبحت الثورة هي هوية الثائرين حتى و إن اختلف توجهاتهم الفكرية، و ربما ذلك ما دفعنا في السنة الأولى ،عندما كانت هوية الثورة هي الأبرز، أن نطمأن إلى أنها منتصرة.
لقد استطاعت تلك الفكرة أن تصبح من صلب هوية الناس، و ذلك لأنها لامست شيئا فيهم، و بعبارة أدق، لقد كانت موجودة فيهم لكنها كامنة خلف ستار من القهر و الصمت.
نحن اليوم في السنة الخامسة من الثورة، و لا تزال هذه الهوية الثورية قائمة، لكنها محجوبة بغطاء كثيف من الهويات الزائفة العابرة، بعضها مغلف بالقوة، و بعضها بنصوص دينية مؤولة، أو ربما بالأثنين معاً، و مهما يكن من حجم تلك الهويات، فلن يكتب لها النجاح، لأن الهوية و الانتماء ليست فكرة تقنع بها الشخص و لكنها ثقافة راسخة فيه، تفسر كل سلوك يقوم به و تحدد كل وجهة يسلكها.
تنظيم الدولة (داعش) على سبيل المثال، يعمل على خلق هوية جديدة معتمداً على إرث ديني ضخم يمَكّنه من خلال تأويل النصوص بطريقة ما، أو باستغلال الأحداث الراهنة التي يعيشها المسلمون أن يقنع البعض بصواب ما يدعو إليه، و الخطر في هذه الحالة كامن في أن هذه الهوية المشوهة تستند إلى أصول دينية صحيحة لكنها تنحرف في توابعها، فالحكم بما أنزل الله و تطبيق الحدود مسلَّم به عند غالبية المسلمين، و لكن إظهاره بصورة دموية مقترناً بنصوص دينية هو الطابع السائد بالنسبة لتنظيم الدولة، لقد أصبحت هذه الصورة علامة عليه و هويته التي يدعو الناس إليها و يعرفه العالم بها، و هو ما يناقض الثقافة السائدة في المجتمع السوري، و لو اقتصرت هذه الهوية على تطبيق شرع الله للاقت قبولا كبير بين أبناء الشعب، لكن هذه الهوية شوهت عندما قدمت لهم بهذه الطريقة الدموية.
هذه الهوية التي تم استدعاؤها من التاريخ و تسندها القوة فقط، لا يمكن أن تتوافق مع طبيعة المجتمع القائم الآن، و ما إن تزول أسباب قوتها فمصيرها الحتمي إلى زوال.
كل هوية تستند إلى شيء طارئ تزول بزواله، و هذا حال معظم الأفكار الطارئة و المستوردة التي حرفت الثورة عن مسارها، أما الثورة فقد قامت ابتداء على فكرة رفع الظلم و تحقيق العدل، فهي مستندة إلى طبيعة لا تنفك عن الإنسان، و تلبي فيه نداء الفطرة و الدين، و إلا مالذي يثبت هؤلاء الناس في جبهات القتال و قد خذلهم الجميع، إلا إيمانهم بعدالة قضيتهم و أحقيتها في ذاتها، و انتماؤهم الصادق إليها.
بالرغم من غياب هوية الثورة لبرهة من الزمن إلا أنها عند عوتها ظهرت بقوة، فهي التي استطاعت أن توحد الفصائل المتنوعة لتحقق في أيام ما عجزت عن تحقيقه في الثلاث سنين السابقة.
عودة هذه الهوية إلى ساحة الصراع أثبت أنه الشيء الوحيد القادر على توحيد الجهود و توجيه دفة المعركة إلى وجهتها الصحيحة، و ما عدا ذلك فهويات متناحرة فيما بينها لا تسر صديقا و لاتكيد عدوا.
مهم جداً أن نعيد التذكير بأصل القضية كي نحفاظ على الهوية الجامعة لها، و إلا فإن الهويات تتشظى إلى اللانهاية، حتى تصبح هويات صغيرة تتمثل كل واحدة منها في جماعة من الناس و ربما في شخص واحد، و هذا يعني على أرض الواقع تمزق المجتمع و تآكله، بل و ربما القضاء عليه كمجتمع، وهي الحالة الوحيدة التي يكون الجميع فيها خاسر.