“قُم يا ولدي أغسِلُ لكَ وجهك الجميل الذي حَفَرَه حَصى خيمتنا، فاليوم أول أيام العيد.. قم يا ولدي فالأطفال ينتظروك لتلعب معهم..”.. كرّرَتْ الأم عبارتها في محاولة لإيقاظ طفلها ذو الأربعة أعوام وهي تمسح على رأسه.. ولكن (أسمعت لو ناديتَ حياً)، فقد تسللت روحه خلسة إلى السماء تحت جنح الظلام..!
هذا المشهد والصورة المرفقة بالمقال، ليسا مقتطفين من رواية خيالية حزينة أو فلم صُنع في هوليود، بل حدث حقيقي على تخوم جسر (بزيبز) الرابط بين محافظة الأنبار والعاصمة العراقية بغداد.. هناك حيث أغلقت الحكومة هذا الجسر منذ خمسة أيامٍ بوجه أكثر من 200 عائلة فرّت، من لهيب الحرب وجحيم الحصار، لا تحمل معها غير ما ترتديه من ثياب تستر بها عورتها.
لم يكن ذلك الطفل أول ضحية تصرعها القرارات الظالمة للحكومة، بل إنه خامس خمسة توفّوا في غضون الخمسة أيام الماضية فقط، فقد سبقه طفلان ورجلان مسنّان، بعد أن اجتمعت عليهم حرارة الشمس الملتهبة المقاربة لعتبة الـ50 درجة مئوية، فضلاً عن الجوع والحكومة وقواتها الأمنية التي يُفترض أنها حامية لهم صائنة لأرواحهم!!
الحكومة هي من دعت تلك العائلات لترك مناطقها التي يسيطر عليها تنظيم (داعش)، ووعدتهم بالحفاظ عليهم وحمايتهم، وبعد كرٍ وفرٍ مع عناصر التنظيم الذين حاولوا منعها من الخروج، نجحت بالفرار، ويمّمت وجهها شطر عاصمتها بغداد.
وصلت تلك العائلات لبغداد وليتها لم تصل، فعاصمتهم أوصدت أبوابها بوجههم، معلنةً أنهم غير مرحّب بهم وكأنهم من جزر القمر أو صحراء دارفور، فيما تُفتح فيه ذات الأبواب على مصراعيها للزوار الإيرانيين والباكستانيين وغيرهم في كلَ وقتٍ وحين، وتُقدّم لهم أفضل الخدمات وتُسَخَّرُ لهم إمكانات جميع الوزارات!!
عندما تسأل الحكومة، لماذا لا تسمحين لهم بالعبور يأتيك الجواب سريعاً “نخشى تسلل الإرهابيين لبغداد”!!، وهذه حجة واهية إلى حدّ بعيد، وليست سوى عباءة تخبئ فيها الرغبة في إذلالهم واضطهادهم، فكيف يحتمي مجرم فارّ من العدالة بمركز للشرطة؟!
نعم تركتهم الحكومة يواجهون الموت لوحدهم بل أنها دفعتهم إليه دفعاً ولازالت، فهؤلاء يفترشون الأرض ويلتحفون السماء بأشدّ أشهر السنة حرّاً.. طعامهم (أحشاؤهم) التي يأكل بعضها بعض من الجوع، وشرابهم (العرق) الذي يتصبّب من أجسادهم المنهكة، فلا الحكومة سمحت لهم بالعبور، ولا هي قدمت لهم ما يحتاجون.
وبطبيعة الحال لمِ تأتِ هذه المعاملة اللا إنسانية من فراغ، فمعظم الأبواق الإعلامية المقربة من الحكومة ومن يقاتل إلى صفّها، تصوّر العائلات النازحة على أنهم دواعش مارقين، لأنهم بقوا في مناطقهم فترة من الزمن لعد سيطرة التنظيم عليها، فتلك الأبواق لم يعد لها ركيزة غير حب التشفّي والرغبة في الإنتقام!
كيف تلومون من بَقي من المواطنين ولم يخرج، وأنتم تُغلقون أبوابكم أمامهم، وتصفونهم بأبشع الأوصاف وأشنعها؟ المواطن البسيط يريد أن يفر من الموت إلى الحياة، وليس من الموت إلى الموت، فمن توفّي مؤخراً عند جسر بزيبز فرّوا من البراميل المتفجرة، فقتلهم إهمال الحكومة وغطرستها!
ليس ذنب المواطن أنه من منطقة سيطر عليها تنظيم الدولة بسبب ضعف الأجهزة الأمنية وخورها، وليس ذنبه أنه من منطقة انسحب منها الجيش دونما سبب يُذكر، فالعسكر هو الحامي للمواطن وليس العكس، فلا تُحمّلوه وزر فشلكم وعجزكم.
افتحوا لهم أبوابكم وقلوبكم وعاملوهم كـ”مواطنين” وقعوا ضحية حربٍ لا ناقة لهم فيها ولا جمل، فإنْ بقوا بعدها، يحق لكم حينها معاملتهم بهذه الطريقة!
وإلى ذلك الحين.. سيبقى جسر بزيبز.. جسراً يروي معاناة عراقيين تغربوا في وطنهم، وتبقى أرواح الأطفال هناك تتسلّل خلسة من خيام الأرض إلى ظلال الجنة، وفي المقابل يبقى العار يلاحق الحكومة العراقية التي قتلت مواقفها اللا انسانية “رُوح المُواطَنة”.