ترجمة من الفرنسية وتحرير نون بوست
قلق وجودي يجتاح حياتي”، هكذا افتتح كليمنت أبيفوتا، رئيس جمعية ضحايا جرائم نظام حسين هبري، كلامه عن تجربته في جحيم التشاد، “لقد انتفيت من الوجود خلال سنوات احتجازي الأربع، وبعد خروجي أصبحت أحمل معي شبح حياتي المُدمَّرة”، لقد روى الشاب حكايته عشرات المرات، حيث تم اعتقاله في عمر الـ23 سنة، بين 1985 و1989، دون محاكمة ولا تفسير؛ لمجرد الشك بأنه يتعاطف مع مجموعة ثوار ضد النظام الديكتاتوري لحسين هبري، رئيس التشاد، وها هو اليوم ينوي السفر إلى ألمانيا من أجل مواصلة دراسته.
لقد استطاع كليمنت أبيفوتا الصمود في مراكز الاعتقال التابعة للبوليس السياسي، المُجَنّد لخدمة مصالح الرئيس أين يتم “نزع صفة الإنسانية من الإنسان، ضربه، تعذيبه، احتقاره، وإجباره على القيام بأعمال شاقة”، عندما وصلت السيارة إلى “سهل الموتى”، أشار الشاب بيده إلى شجرة عارية من الأوراق، وقال “لقد دفنت أول جثة هناك”، تنصب مبانٍ خالية من الذوق عند مخرج إنجامينا، عاصمة التشاد، لتزاحم بذلك مقابر امتدت لتحمل في ثراها ضحايا القمع المدفونين هناك.
لقد عمل كليمنت أبيفوتا كحفار قبور خلال سنوات احتجازه الأربع، وتم اختياره للقيام بهذا العمل الدنئ لبنيته الجسدية القوية، “لقد كانوا يأتوننا بثماني أو عشر جثث يوميًا، وقد يزيد الرقم عن ذلك أحيانًا، وتم دفن الجثث، على امتداد كيلومترين، بصفة عشوائية ودون أي احترام لحق الميت”، وقدرت لجنة تحقيق وطنية أن عدد الأشخاص الذين تم اغتيالهم، أو لقوا حتفهم خلال الاعتقال، يبلغ أكثر من أربعين ألف ضحية خلال سنوات حكم حسين هبري الثماني (1982 – 1990).
إحساس بالانتصار
بعد مرور أكثر من ربع قرن على تحريره، لا تزال ذكرى تلك التجربة المأساوية تطارد كليمنت، ولكن شعوره بالانتصار قد خفف من ألمه قليلًا، بعد 15 عامًا من الكفاح والمعارك العدلية، سيتم عرض حسين هبري على المحكمة، في 20 يوليو بداكار السنغال، بتهمة اقترافه لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لقد حول ضحايا نظام القمع التشادي ملجأ رئيسهم السابق في السنغال إلى مصيدة فئران، وذلك بدعم من المنظمة غير الحكومية “هيومن رايتس ووتش”، التي تدافع عن حقوق الإنسان.
وقد قالت جاكلين مودينا، المنسقة بين مجموعة محاميي الضحايا، إن “الأمر عبارة عن نهاية كابوس بالنسبة للجميع، إلا أنا”، ويجدر الذكر بأن جاكلين قد تعرضت لمحاولة اغتيال من خلال إلقاء قنبلة يدوية أثناء خروجها من السفارة الفرنسية، في يونيو2001، مما سبب لها إعاقة جسدية في إحدى ساقيها، وهو ما يدل على الصعوبات التي واجهها فريق التحقيق في قضية إنابة 4200 ضحية تضرروا بشكل مباشر أو غير مباشر.
لقد ظهرت فكرة محاسبة نظام هبري عندما جمع القدر بين طالبين متطوعين لدى منظمة “هيومن رايتس ووتش” وسليمان غنغن، وهو سجين سابق للبوليس السياسي للنظام، لقد أقسم سليمان أنه “سيكشف حقيقة نظام هبري للعالم”، ثم بدأ في جمع إفادات 792 ضحية، أخفاها إثر سقوط النظام في مكان سري خلف منزله.
وقد مثلت هذه الإفادات نقطة بداية لتكوين ملف القضية، في يناير من سنة 2000، وتم تدعيمها بشكاية تم تقديمها من قِبل سبع ضحايا تشاديين، ولكن تم رفض حكم الإدانة الذي أعلنه قاضي محكمة داكار عند الاستئناف، بتعلة عدم أهلية المحكمة، بعد ذلك تم نقل القضية إلى بلجيكا لتعود إلى أيدي الاتحاد الأفريقي بعد أربع سنوات من البحث، وخاصة بعد رفض السنغال تسليم حسين هبري.
أثبتت عملية إيقاف الديكتاتور الشيلي السابق أوغستو بينوشيه، قبل عامين، أن زعماء الدول ليسوا أعلى من القانون، ولذلك قررت جمعية الدفاع عن حقوق الإنسان أن تلتمس العدالة من عبد الله واد، رئيس السنغال آنذاك، وأن تدفعه إلى محاكمة حسين هبري “باسم أفريقيا”، ولكنه رفض وواصل سياسة عرقلة العدالة.
المنفى ذو الخمس نجوم
في داكار، تحول حسين هبري إلى رجل ذو نفوذ كبير، باعتبار أنه أحضر عدة ملايين من اليوروهات نهبها من التشاد عند هروبه، واستثمرها في كافة الميادين، ولكن فترة المنفى المريح انتهت عندما صعد ماكي سال إلى سدة الرئاسة عقب انتخابات 2012، لقد قام الرئيس الجديد بإنشاء الغرف الأفريقية الخارقة للعادة، وهي مجموعة محاكم مختصة مقرها قصر العدالة بداكار، ويترأسها القاضي البوركيني غيبرداو غوستاف كام، وبعد مرور سنة، وبالتحديد في يوليو 2013، تم توجيه اتهامات إلى حسين هبري واعتقاله، منذ ذلك الحين وهو ينتظر محاكمته الفردية باعتبار أن التشاد قد حاكمت شركاءه بعجالة، ومنعتهم من القدوم إلى السنغال للشهادة.
لقد أضاء وجه غينات نغارباي عند بدء المحاكمة، وهي تقول إن “نهاية النفق المظلم قريبة، الحمد والشكر لله”، غينات سيدة فاضلة عمرها 51 عامًا، قادها حظها السيء إلى إعطاء بعض الماء، منذ ثلاثين سنة خلت، لجماعة يُعتقد في انتمائها للثوار، عندما أتى ضباط إدارة الأمن والتوثيق ليعتقلوها، قالت لها جارتها “لقد حان دورك”.
خطأ جماعي
لقد تلى اعتقال غينات أسبوع كامل من التعذيب بالكهرباء والجلد، دون أي اعتبار لطفلها الذي تحمله في أحشائها، “لقد وضعت ابني على الأرض بين البراغيث والقمل وكافة أنواع الحشرات، كان الجميع يبكي، أنا وطفلي وزملائي في الزنزانة، لقد كنا ثلاثين شخصًا ننتظر الموت، ولكن أتى أحدهم في يناير 1987 ليخبرني أنه قد وقُع إطلاق سراحي، في أول الأمر، لم يرد الناس أن يستمعوا لما حصل لنا في السجن، لقد كان الجميع خائفين، وكنت أنا أيضًا خائفة”.
يقوم السجانون بتوصية كافة المفرج عنهم بأن يلزموا الصمت، “لقد أوصوني بأن ألزم الحذر، قالوا إذا ما أخبرنا أحدهم بأنك تروين ما حصل لك وما رأيت بالداخل فستكون هذه نهايتك”، ولكن غينات كسرت حاجز الصمت أخيرًا، وهي تنتظر الآن أن تتم محاكمة الرجل الذي تسبب في كافة مآسيها، حيث قالت إنها “لو لم تكن ناشطة تدافع عن حقوق الإنسان لطالبت بشنقه!”.
أعلن زكريا فاضل خضر، رئيس جمعية ضحايا الجرائم والقمع السياسي بالتشاد، عن وجه آخر من وجوه العنف السياسي، وهي نظرية “الخطأ الجماعي”، لقد أكد له معتقله أن جريمته الوحيدة هي أنه ينتمي لقبيلة زغاوة، أي نفس القبيلة التي ينتمي لها الرئيس الحالي إدريس ديبي إتنو، الذي قام بالانقلاب على نظام حسين هبري في 1989 بعد أن عمل معه لسنوات، ومثل كل الثورات التي سبقتها، كانت النتيجة التشفي من كل المنتمين لتلك القبيلة.
أعلن زكريا أنه قد خسر “46 شخصًا، بين إخوة وأبناء عم، وأخوال وأعمام”، وأضاف أن لإدانة هبري “أهمية رمزية وتاريخية، وأنها يجب أن تكون مرفقة بتعويضات للضحايا، فالفلاح الذي خسر أبناءه الثلاثة لن تعني له الإدانة شيئًا.”
لقد حضّرت جاكلين مودينا كلمات الافتتاح التي ستوجهها لحسين هبري، إذا ما حضر المحاكمة، حيث ستقول له إنه “مهما طال الليل، فمصير النهار أن يأتي”، أما كليمنت أبيفوتا فسيكتفي، مثله مثل عدد كبير من إخواته في الكفاح، بتوجيه سؤال “لماذا؟”.
المصدر: صحيفة لوموند الفرنسية