تُعايد المُدن بعضها على طريقتها، تعرف الوقت المناسب لإرسال التهنئة، باقات الورد، الهدايا، وأكياس الشيكولاتة الصغيرة، للمدن حكايا عبر التاريخ، يتناقلها الأجيال، وترويها المدينة على ساكنيها كجدة تحتضن أحفادها، وتقصص لهم من التاريخ أشياء كثيرة، وفي كل مرة يظن الأطفال المتحلقين حول القصة أنها مكررة، لكنه التاريخ وحده يُعيد نفسه، والمُدن لا تموت، لا تموت.
من غزة، الجدة التي ما زالت تروي للقادمين إليها شموخ الوقوف، ودناءة الانحناء، إلى عدن، رفيقة الحُلم، الجرح، والألم. عيدُكِ أبهى يا رفيقة، أجمل، وأكثر زينة. لا تضع المدن الجميلة الحناء إلا ليلة العيد، فكيف حين يكون العيد عيدين.
الجميلة عدن؛ وأعلمُ أنكِ جميلة، كل المدن التي تسرح شعرها بماء البحر كل صباح، تُفطر من صدقات هذا اليم، وأهله، وتستلقي في الشمس قبيل الغروب، كل هذه المدن جميلة، مثلي ومثلكِ؛ والوجه الجميل لا تعيبه كثرة الجروح، لا تضيع ملامحه، يبقى فاتنًا وأخاذًا، يسحر كل من يراه للمرة الأولى، وللأبد.
سأخبركِ أمرًا وأنتِ تبكين فرحًا الآن “أنتِ ثاني أجمل مدينة في الكون”، وتسأليني: مَن الأولى؟ فأهمس لكِ: أنتِ، حينما تبتسمين.
أيتها الرفيقة: مهما حاول النكرات تغيير الجمال لن يفلحوا، الملامح لا تضيع، والمُدن الحرة لا تشيخ سريعًا، عيدك نصر وفرحة، أيتها الفاتنة برجالك ونسائك.
أعرُف، في عمري القليل، شعوركِ الآن، شعور الوجه المبتسم رغم كثرة الآلام، قالوا إن الابتسامة لمن يبتسم أخيرًا، وبعد نصف ألفٍ من الشهداء ويزيد، وآلاف الدموع، ابتسمتِ، هكذا مُدن الأحرار، لا تخضع للعبيد مهما تكاثروا عليها، وتبتسم أخيرًا، الجدات لا يبكون إلا قهرًا، وفرحًا، ودموع الفرح أكثر حلاوة من بحركِ الجميل الذي تنتصب فيه القوارب كشواهد ترفع أشرعتها/ سبابتها إلى السماء: يارب، لك الحمد.
يُمكنني أن أشتم بخور العيد المعمد بالدم، أولئك الأطهار الذين غاروا على عرضهم/ مدينتهم، فأبوا أن يجعلوا للدنس فيها مكانًا، فغسلوه بدمائهم، والدم حين يغسل الأرجاء لا يُبقي أثرًا، ولو حتى لموطأ الأقدام الخائنة، تلك التي غدرتكِ على حين حبٍ منكِ، وجمال. أشعلي الأرض تحت أقدامهم أكثر، وانثري عليها البخور، ريح البخور العدني كلما هب النسيم ستكون أجمل يا جميلة.
أمام القادمين من القرون الوسطى، الخارجين لتوهم إلى القرن الثامن عشر من جبال مران وكهوف صعدة وأزقة عمران، سنينًا ضوئيةً كي يصلوا موطأ قدمكِ. يحتاجون لمصعدٍ بطُولِ ألف حرٍ كي يخرجوا من القاع الذي هم فيه، فيعتلوا موس حلاقةٍ مُلقىً على شاطئ (الجولد مور)، وحدك المُعلمةُ لهم كيف يصعدون، والمعلِمة على وجوههم.
يعلمُ الحمقى الذين ظنوا أن البندقية في أكتافهم تصنع مجدًا أن المجد يبنيه الأحرار فقط، وأن البنادق تنتصب كأعشاب ضارة في أرض الحرية إذا كان زارعوها من العبيد، وأن الذين باعوا عقولهم للذي وعدهم بالجنة، والحرب المقدسة، وأخبرهم من جحره أنه سيدعو لهم آناء الليل في جهادهم المقدس، هم قطيع مصيره الذبح، لا أكثر.
اجمعي جثث الحوثَة، كلاب الأرض، وانثريها على قمة جبل حديد، حتى لا يُقال: جاع كلبٌ في مدينة الأحرار، عدن.
وضعي وردًا جوريًا أحمرًا، كدمِ الشهداء في الطرقات، واكتبي على إشارات الحرية: هنا مر الذين رسموا خريطة الفرح. سمي شوارعكِ بأسمائهم تيمنًا بالنصر دومًا؛ واجمعي أكياس “الجعالة” الصغيرة، وزعيها، واكتبي عليها: إهداء من غزة الحرة، إلى الشقيقة عدن، أختها في الدم، والحرية.
ستكون الأشياء أزهى يا رفيقة، ستعود البريقة بشاطئها الجميل، ستبقى قلعة صيرة شامخة، كأهلكِ، كالأحرار دومًا، طعمُ “القرع” والروتي والشاهي العدني في التواهي سيبقى كما هوا، لا يُضاهيه فطور أفخم مطاعم هذا العالم، وسيعود الخور هادئًا، وادعًا، وستشتمين عبقَ الجمال من سوق الصيد، وستبقى ضحكات الجميلات على كورنيش العروسة تدوي عاليًا إلى سمائكِ التي تحولت إلى محرابٍ حج إليه الشهداء، وعادت منه ضحكاتهم.
الجمال لا يُهزم يا رفيقة، لا يُهزم.
سأخبركِ شيئًا قبل أن أقبلكِ:
أنتظرُ كأسَ “ثريب” على حسابكِ، على شاطئ غزة.
قُبلاتي لك، يا قِبلة الأحرار، وقُبلة الحياة، والنصر.
محبتكِ، وأختك في الوجع والحب: غزة.
الثامنة نصرًا بتوقيت الحرية.