يُعتبر راشد الغنوشي أحد أهم المفكرين الإسلاميين الذين كان لهم السبق في زعزعة بعض المُسلمات الموروثة والفضل في فتح بعض الملفات التي كانت تُعد من المُحرمات لتصبح اليوم أحد مفاتيح العمل الإسلامي المُتأقلم فهمًا مع واقعه.
ورغم حملة التشويه الممنهج التي دامت أكثر من 23 سنة في عهد النظام الديكتاتوري السابق، وحملات التشويه السياسوية ما بعد ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي، نجح الغنوشي وحركة النهضة التي يرأسها في أن يفرضا نفسيهما كرقم سياسي صعب، عبر الامتداد الشعبي التاريخي بداية، ثم عبر المُمارسة السياسية التي أظهرت ما بات يصفه الخصوم قبل الأصدقاء “الدهاء النهضوي”.
بورتريه راشد الغنوشي
خُط عن الرجل دفاتر وكُتب حول تاريخه وتجربته وتكوينه، وانطلاق تجربة الحركة الإسلامية بتونس يوم التقى بالشيخ المُفوه عبد الفتاح مورو، ورغم قيمة التاريخ ومنطلقات النشأة، إلا أن التاريخ الحديث ما بعد ثورات الربيع العربي المُتواصلة والتي يُمكن دراستها بشكل آني قد تكون أهم من ناحية بناء المستقبل.
ويعود أول عهد لتونس الجديدة مع راشد الغنوشي ليوم 30 يناير 2011، تاريخ عودته لها بعد غياب دام قرابة الـ 21 سنة، عندما اُستُقبل استقبالاً كبيرًا في مطار تونس قرطاج كان بمثابة الرسالة الأولى، أن هذه الحركة التي هوجمت لسنوات عديدة قادرة على النهوض من الجديد.
وفي الحقيقة، لم يكن الجميع مستبشرًا بتلك العودة، فباستثناء المنتمين للحركة، كان الغنوشي ونهضته في أحسن الحالات في مرتبة الغريب والمستراب منه، بحكم ما غُرس في الأذهان لسنوات عديدة، ورغم ذلك سارعت النهضة بطلب تأشيرة للعمل الحزبي وتوجهت للناس وكسبت ثقتهم لتفوز بانتخابات المجلس التأسيسي؛ ما أهلها لقيادة الحكومة المنبثقة عنه.
ومع ظهور موجة الارتداد عن الثورات، لعب الغنوشي دورًا هامًا في تجنيب حركته معركة خاسرة، فكان أول من نادى بالتخلي على قانون العزل السياسي بعد أن كان من المنادين به، كما ساهم في بلورة تسوية مع الفاعلين في المشهد السياسي والذين استفادوا من حادثتي الاغتيال السياسي التي شهدتهما تونس والتي راح ضحيتها شكري بلعيد ومحمد البراهمي ونظروا وقتها لإعادة إنتاج المشهد المصري، رغم المعارضة الشديدة التي لقيها من داخل حركته وقتها.
لم تكن سرعة الأحداث ولا فرادتها لتسمح بنسج مسار سياسي كامل واضح المعالم، فكل الطيف السياسي في تونس تقريبًا كان يتفاعل بصفة يومية مع الوافد من المعطيات والأحداث بارتباك قد يفضي للموقف ونقيضه خلال أيام، ومما يُحسب للرجل هو قدرته على التأقلم مع المُستجدات والخروج من المآزق برأس باردة متخففة من ضغط الجماهير القواعد، فهو من بين المتبنين لمقولة “القيادة جُعلت لتقود”.
وقد مثلت مرحلة ما بعد الثورة فرصة لاكتشاف الغنوشي السياسي بعد أن كان في ذهن العديدين مقتصرًا على كونه أحد المفكرين، ويتفق الخصم قبل الصديق على أن الغنوشي والنهضة كانوا من بين مفاتيح نجاح الحوار الوطني الذي أداره الرباعي للحوار (الاتحاد العام التونسي للشغل، اتحاد الأعراف ، هيئة المحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان) الذي أفضى إلى تفاهم كان من ثماره دستور البلاد الجديد والانتخابات الثانية سنة 2014.
من الرمز الحزبي إلى الزعيم الوطني
ومع دقة الوضع الذي آلت إليه المنطقة، كانت البلاد تحتاج لظهورعُقلاء يمنعون انهيار البيت على ساكنيه، ويُسبقون المصلحة العامة على المصلحة الوطنية باعتبار أن المجال لم يعد يسمح بمزيد من التجاذبات التي تضيع الوقت والجهد في مرحلة يختنق فيها الاقتصاد ويزداد فيها الاحتقان الاجتماعي.
وفي الحقيقة، كانت مرحلة الحوار الوطني بداية تشكل لهذا الوعي عند بعض الساسة وظهوره الجلي عند البعض الآخر، فرغم متطلبات الحملة الانتخابية من تقريع للخصوم ومهاجمتهم، اختارت حركة النهضة ورئيسها أن يبنوا حملتهم من خلال الحديث عن أنفسهم والمطالبة منذ البداية بحكومة وحدة وطنية، في حين كان منافسوهم يكيلون لهم التهم كيلاً.
ومع صدور نتائج الانتخابات، وحلول النهضة ثانيًا ثم مشاركتها الضئيلة في الحكومة بوزير واحد، انتظر العديد من مراقبين أن تركن الحركة المحافظة لسلبية تستريح بها من أعباء الحكم الأول وأن تترك الحزب الوافد الجديد يتحمل مسؤولياته، ومع ذهاب مؤسس الحزب، الباجي قائد السبسي، لقرطاج بعد فوزه بانتخابات الرئاسة، دخل حزب الأغلبية في صراع تموقع كان مُنتظرًا خاصة وهو الذي لم يعقد بعد مؤتمره التأسيسي، وهو ما ألهاه عن تحمل مسؤوليات الحكم.
فمع أول الأزمات التي شهدتها تونس عقب الانتخابات، من خلال احتجاج عدد من مدن الجنوب بعد تصريح خارج السياق من أحد قيادات نداء تونس، كان الغنوشي في الموعد وتحرك وحيدًا في تلك المدن مُهدئًا ومُناديًا بالمحافظة على تماسك النسيج الاجتماعي التونسي، وهو الدور الذي كان يجب أن يلعبه رئيس الجمهورية.
ومُؤخرًا، اضطر راشد الغنوشي لزيارة بوتفليقة بعد ما راج من حديث عن غضب جزائري بخصوص إمضاء تونس لمعاهدة مع الولايات المتحدة الأمريكية تصبح بها تونس حليف غير عضو بحلف الناتو دون استشارة الأخت الكبرى والتي تحمل على ما يبدو موقفًا حادًا من كل حضور عسكري أجنبي في المنطقة أيًا كانت الضرورات.
وفي السياق ذاته، أدى ضعف الدبلوماسية التونسية في عهد وزير الخارجية الحالي، الطيب البكوش، واصطباغها الفج بأيديولوجية مُديرها لخلق مشاكل جمة مع ليبيا، تارة مع أهل الشرق وأخرى مع أهل الغرب، وكان آخرها ما سببه قرار المضي في بناء ساتر ترابي على الحدود بين الدولتين توقيًا من مخاطرالتهريب ليبلغ الأمر لمستوى التهديد، ليتدخل راشد الغنوشي وحركته من خلال تنظيم حفل “إفطار الأخوة التونسي – الليبي” الذي كان مناسبة لتهدئة الخواطر وتجاوز سوء الفهم الحاصل.
الغنوشي والنهضة
ساهم التحرك المضني لراشد الغنوشي في مختلف القضايا دون حسابات سياسوية في تحقيقه لاختراقات إعلامية هامة، فأصبحت تجد الإعلام التونسي، الذي كان جد متحاملاً على الرجل وحركته، مُحتفيًا به ومُعددًا لمناقبه وخصاله.
وفي السياق ذاته، وعند الاطلاع على دراسات سبر آراء التونسيين حول السياسيين في تونس، نجد أن أسهم رئيس النهضة في صعود مُستمر إلا أن هذا الرضا لم ينعكس على صورة النهضة كحزب.
وفي الحقيقة، ليس من الصعب قراءة أسباب غياب الانعكاس المُباشر لصورة رئيس الحزب على الحزب ذاته باعتبار أن الانتقال للبعد الوطني في شخصيته يفرض بالضرورة تعال عن الحسابات الحزبية وتوجهًا نحو المصلحة العامة التي قد لا تكون مُستساغة لدى جمهور النهضة وهو ما يُمثل مبحثًا حقيقيًا لخبراء الاتصال في الداخل النهضوي لإيجاد حل لهذا التحدي، فبين الهم الوطني والمصلحة الحزبية خط رفيع وجب تحسسه.
من جهة أخرى، يعتبر الغنوشي أحد نقاط التوازن القليلة في الداخل النهضوي، كما أن وزن مؤسسة الرئاسة في الحزب وخاصة وزن الغنوشي واهتمامها بأغلب المسائل الحيوية كفيلة بأن تكون أحد مصادر القلق حول مستقبل الحزب في مرحلة ما بعد الغنوشي، فالحركات الحية يجب أن تفكر بصفة متواصلة في آليات تجددها وتواصلها.
تمر البلاد والنهضة بمرحلة انتقالية دقيقة ستحتاج فيها اليوم ومستقبلاً لزعامات من وزن راشد الغنوشي، ومن المهم أن تمضي البلاد والنهضة في الآن نفسه للتفكير في إعداد نخبة قيادية مُؤهلة لرفع المشعل متى تحققت الحاجة للتغيير ويُعد هذا الهاجس أحد أهم الإحراجات التي ستمر بها تونس مع شيخوخة الطبقة السياسية الحالية؛ المسألة لا تتعلق بصراع للأجيال وانما بقلق على المستقبل نابع من الحرص على المصلحة العامة.