ترجمة وتحرير نون بوست
في منشور حديث تم نشره على مدونة مجلس العلاقات الخارجية، وهي منظمة أمريكية ومركز أبحاث بارز، كتبت الباحثة المشاركة فاليري وريتشافتر تقييمًا لمسار “النهضة الكوبية”، التي يبدو وكأنها جارية على قدم وساق في كوبا اليوم، بفضل الإصلاحات الداخلية وذوبان الجليد الدبلوماسي مع الولايات المتحدة.
استنادًا إلى الزيارة التي قامت بها إلى كوبا في مطلع هذا العام، علّقت ورتشافتر على بعض الجوانب الدقيقة لصناعة السياحة، وهو القطاع الآخذ بالتوسع في الجزيرة التي وُلدت من جديد، حيث جاء في مدونتها “الصناعة الفندقية على وجه الخصوص، بما في ذلك فندق ناسيونال هافانا الذي تديره الدولة، تمجّد ماضي العصابات الذي شهدته البلاد سابقًا، والتاريخ العنيف الذي حفّز جزئيًا الدعم الشعبي لثورة فيدل كاسترو”.
تدلف بعدها الكاتبة لتعلق على واقعة محيّرة ومتناقضة، حدثت عندما التقطت الكاميرات الناشطة الاجتماعية الشهيرة باريس هيلتون ونجل كاسترو وهما يلتقطان صور “السيلفي” معًا في مهرجان سيجار هافانا في فبراير الماضي، والذي يُعقد ضمن ما كان يسمى بفندف هيلتون في هافانا، وهو الفندق الذي افتتحه جد هيلتون في 1958، وكان أحد أول ضحايا الثورة، حيث حوله كاسترو إلى مقر قيادة مؤقت في العام الذي تلا افتتاحه.
ولكن ربما الواقع الأكثر غموضًا وحيرة، والذي لم يحظَ بمكان في مادة الكاتبة، هو حقيقة أن “ماضي العصابات” في كوبا و”التاريخ العنيف”، كان -إلى حد كبير – نتاجًا لسياسات الحكومة الأمريكية ودسائس ومكائد المافيا الأمريكية؛ ففي أعقاب انتصار كاسترو، واصل الكيانان (الحكومة والمافيا) نشاطهما الضامن لبقاء كوبا تحت وطأة العنف المستمر المعادي للثورة.
مستعمرة القمار ودولة العصابات
وثق المؤرخ جاك كولهون تطور العلاقة ما بين الدولة الأمريكية والجريمة المنظمة، في بحثه المستفيض في كتاب “العصابات: الولايات المتحدة وكوبا والمافيا 1933 – 1966″، حيث يذكر الكاتب أن “مستعمرة كوبا الجديدة” ظهرت لأول مرة عندما تدخلت الولايات المتحدة في نهاية القرن الـ19 في الحرب الكوبية للاستقلال عن إسبانيا، وأدت أفعالها إلى وأد خيار استقلال كوبا في المهد، من خلال تعيينها لذاتها سيدًا جديدًا على كوبا.
هذا الوضع أدى إلى اطراد الاعتماد الأمريكي على الأراضي الكوبية كقاعدة بحرية، مؤسسة بذلك ما أصبح يعرف مستقبلًا بمعتقل خليج غوانتانامو، جنبًا إلى جنب مع الممارسات الأخرى في الأراضي الكوبية، وبحلول منتصف القرن الـ20، أشار كولهون بأن كوبا أصبحت “ملحقًا اقتصاديًا أمريكيًا”، من خلال سيطرة الأمريكيين على العديد من مصانع السكر، والسكك الحديدية، والمرافق العامة، وإغرق الجزيرة ببضائع الولايات المتحدة الأمريكية.
يذكر المؤلف بالتفصيل كيف تم تسهيل إنشاء “مستعمرة قمار” تابعة للمافيا في كوبا في ثلاثينيات القرن المنصرم، من خلال العلاقة الوطيدة التي جمعت ما بين رجال العصابات في أمريكا الشمالية وفولهينسيو باتيستا، الديكتاتور الذي حكم كوبا لمرتين، حيث كان الأخير يتلقى حصة من أرباح عمليات المافيا في كوبا، كما أشرف على تحويل كوبا إلى “دولة عصابات مكتملة”.
كما قدمت الكازينوهات في كوبا فرصة مواتية لعمليات غسيل الأموال للأعمال التجارية المشبوهة، وفي عام 1946، استضاف فندق ناسيونال، الذي كانت تديره المافيا حينئذ، قمة لزعماء عالم الجريمة الأمريكيين بغية وضع الأسس لتحويل الجزيرة إلى مركز تهريب للهيرويين.
لا لحية، لا ثورة
يوضح كولهون، أنه عندما أسدلت الثورة الكوبية الستار على دولة العصابات، التف رجال العصابات حول حلفائهم السياسيين الفاسدين في حركة المنفيين الكوبيين في الولايات المتحدة، حيث حاولوا المستحيل لإعادة سطوة العصابات في كوبا، وذلك من خلال التآمر مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “CIA” لاغتيال كاسترو.
اعتمدت وكالة الاستخبارات المركزية على وسائل وأساليب مضحكة وغير فتاكة للتعامل مع الزعيم الكوبي، بما في ذلك أسلوب أملاح الثاليوم، وهو مزيل شعر يساعد على تساقط شعر اللحية، حيث كان التفكير السطحي الأمريكي يتأمل أن تسقط سلطة وشعبية كاسترو مع تساقط لحيته!
كما تعاون كل من وكالة الاستخبارات المركزية والمافيا على رعاية غارات وعمليات تخريب في كوبا، وأحد أهم الأمثلة على ذلك هي عملية غزو خليج الخنازير 1961 المدعومة من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، والتي مُنيت بهزيمة مدقعة.
يوضح كولهون أيضًا، بأن مسؤولي هيئة الأركان الأمريكية المشتركة ذهبوا إلى درجة التفكير بخيارات تشمل إسقاط طائرة مدنية وإلقاء اللوم على كوبا، لتكون ذريعة للتدخل العسكري، كما انطوى اقتراح آخر على شن حملة إرهابية ضد المنفيين الكوبيين في أمريكا، لذات الغرض.
وبالطبع، لم تصرح الولايات المتحدة للعلن عن السبب الجوهري والحقيقي لمعاداتها للثورة الكوبية، والذي يتمثل بحقيقة أن الثورة ذبحت البقرة الكوبية الحلوب، وبالمقابل، وبغية تبرير نهجها العدائي تجاه الجزيرة الكوبية، صنفت الولايات المتحدة كوبا على أنها تهديد وجودي لأمريكا، وهو تهديد هائل بما فيه الكفاية ليستحق المخاطرة بكارثة نووية، من وجهة النظر الأمريكية.
باتجاه إعادة الغزو
عندما بدأت كوبا وأمريكا أخيرًا بتسوية الأمور بينهما في ديسمبر من العام الماضي، كتبت أخبار البي بي سي “في كوبا، بدأت الإصلاحات الاقتصادية المحدودة التي قام بها الرئيس راؤول كاسترو، بتخفيف قبضة الدولة، واستثارة اهتمام رجال الأعمال الأمريكيين”.
ولكن في الوقت الذي يسيل به لعاب الليبراليون الجدد طمعًا بآفاق الأعمال في كوبا، ما هي التوقعات التي قد تنجم عن إعادة العلاقات الكوبية – الأمريكية بالنسبة للمواطن الكوبي المتوسط؟
في البداية، كما تقول وريتشافتر في مدونتها، نظام الرعاية الصحية الحالي في كوبا الذي يوفر الرعاية لكامل الشعب حاليًا، قد يكون أحد الأمور التي ستتدهور في حال عودة الغزو الاقتصادي الأمريكي للجزيرة؛ ففوق كل اعتبار، القطاع الصحي يمكن أن يحقق أرباحًا طائلة للأمريكيين على حساب المرضى الكوبيين، وذات المبدأ ينطبق أيضًا على قطاع التعليم.
وفي الوقت الذي يدعي فيه البيت الأبيض أن جهوده في كوبا ترمي إلى تعزيز استقلال الشعب الكوبي، بحيث لا يعود بحاجة إلى الاعتماد على الدولة الكوبية، من الصعب علينا أن نرى كيف يمكن تحقيق هذا الاستقلال الشعبي عن طريق التدخل الإمبريالي في بلد يتيح بالفعل لجميع مواطنيه أحقية الوصول إلى الغذاء والمأوى والدواء وغيرها من الحقوق الأساسية بالتساوي.
تشير وريتشافتر أيضًا أن فتح الباب أمام القطاع الخاص في كوبا سيعمل على زيادة عدم المساواة في الدولة الكوبية، لأن شراء الأمريكيين الكوبيين للعقارات والأعمال التجارية في هافانا وأماكن أخرى في السنوات القادمة، سيعمل على مفاقمة الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية، وبعبارة أخرى، ستعود كوبا مرة أخرى إلى حيث بدأت.
جميع ما تقدم، سيدخل الفرحة العارمة، وينزل بردًا وسلامًا، على مسامع زعماء المافيا الأمريكية، الذين تآمروا لسنوات لإنهاء الثورة الكوبية وتصفية قادتها.
ولكن رجال العصابات ليسوا الوحيدين الذين حققوا مساعيهم، بل إن نظام النهب الليبرالي الجديد، الذي أصبح العلامة التجارية الأمريكية السائدة في جميع أنحاء العالم، والذي يعوّل على السياسات العسكرية العدوانية الساعية لتركيز الثروة في أيدي القلة القليلة على حساب بقية الشعب، يمكن بسهولة وصفه بأنه نظام الجريمة المنظمة، الذي دأبت أمريكا لتحقيقه في كوبا منذ عقود.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية