نشرت الصُحُف التركية بالأمس أخبارًا عن التعليمات أصدرها رئيس الوزراء التركي، ورئيس حزب العدالة والتنمية، أحمد داوود أوغلو، إلى رؤساء أفرع الحزب في الولايات المختلفة، طالبًا منهم أن يكونوا على أهبة الاستعداد لاحتمالية الانتخابات المبكرة، والعمل لتوسيع قاعدة ناخبي الحزب التي انكمشت في الانتخابات الأخيرة، لعل وعسى يعود الحزب إلى أغلبيته البرلمانية بعد الانتخابات المبكرة إن جرت، وينأى بنفسه عن صداع الائتلافات التي لا تتمتع بتاريخ مضيء في تركيا.
“إننا مستمرون في المباحثات مع كافة الأطراف من أجل التوصل لائتلاف حكومي، وسنظل نتفاوض حتى اللحظة الأخيرة، بيد أننا يجب أن نكون مستعدين لسيناريو خوض الانتخابات المبكرة، مما يعني عدم التوقف عن العمل على الأرض.. وضرورة الاستمرار في التواجد مع المواطنين بكل مدينة،” هكذا قال داوود أوغلو لقيادات الحزب المحلية طبقًا لوكالة الأناضول الإخبارية.
هي كلمات دبلوماسية ومحايدة بالطبع كما يجب أن تكون لرئيس الوزراء، بيد أن الحقيقة هي أن المباحثات مع كل الأطراف لم تعد قائمة، وأن الطرف الوحيد الذي يتفاوض حاليًا ويتوقع أن يشارك العدالة والتنمية في ائتلاف حكومي هو حزب الشعب الجمهوري العلماني، حيث بدا في الأيام الأخيرة بوضوح رفض حزب الحركة القومية التركي للدخول في أي ائتلاف وتفضيله لسيناريو الانتخابات المبكرة وبالتالي خروجه من لعبة المفاوضات، كما يُعَد حزب الشعوب الديمقراطي الكردي بعيدًا جدًا عن حزب العدالة في مواقفه الداخلية والخارجية بشكل يستحيل معه تشكيل ائتلاف بينهما.
من جانبه، أكد رئيس حزب الحركة القومية دولت بغشلي ثقته التامة في زيادة حصته من الأصوات إذا ما جرت أية انتخابات مبكرة، وهي كلمات تدعمها في الحقيقة العديد من استطلاعات الرأي التي تشير لزيادة ميل الناخب التركي نحو الحزب القومي، والذي ارتقع عدد ناخبيه من خمسة ملايين عام 2011 إلى سبعة ملايين ونصف المليون في انتخابات هذا العام، في زيادة بلغت 50٪، “أعتقد أن الشعب التركي يقول الآن أن هناك حاجة ملحة لحزب الحركة القومية، وأنه لا يريد الأحزاب الأخرى بل يريد أن يرى حزبنا في الحكم،” هكذا تحدث بغشلي حين سأله الصحافيون منذ ثلاثة أيام عن الانتخابات المبكرة، وهي ثقة موجودة أيضًا بين صفوف حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، حيث قالت رئيسة الحزب الثانية، فيكَن يوكسِك طاغ بالأمس أنها على ثقة بأداء حزبها حال اتجهت البلاد للانتخابات.
يعني هذا أن الحزب الوحيد المهدد بالفعل بخسارة جزء كبير من أصواته في الانتخابات المقبلة هو حزب الشعب الجمهوري، والذي لم تتغير تقريبًا أعداد ناخبيه الانتخابات الماضية، ويتوقع أن يفقد بعض الأصوات من ناحية لصالح المتحمسين لحزب الشعوب الكردي اليساري، لا سيما من نشطاء مظاهرات جَزي التي جرت في 2013، وربما فقدان أصوات من المعسكر اليميني بصالح حزب الحركة القومية، والذين ازداد قلقهم من صعود الأكراد القوي على الساحة بعد الانتخابات الماضية، وهو ما يجعل حسابات الحزب تميل بالتبعية لتشكيل ائتلاف مع العدالة والتنمية بدلًا من مواجهة خسارة بهذا الشكل.
كمال قلجدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري مع رئيس الوزراء التركي داوود أوغلو
من ناحيته، يميل حزب العدالة والتنمية حاليًا إلى المضي في تشكيل ائتلاف مع الشعب الجمهوري، خاصة وأن الاستطلاعات لا تتفق على مصيره حال جرت انتخابات جديدة، فبعضُها يقول أن الحزب قد يزيد من نصيبه نتيجة تخوّف الأتراك من انعدام الاستقرار، في حين يشير بعضها إلى حصوله على نفس النسبة، وبالتالي العودة إلى نفس النقطة التي يقف عندها حاليًا، بل ولربما يكون الحزب حينها في موقف أسوأ إذا تراجع الشعب الجمهوري لصالح الحركة القومية والشعوب الديمقراطي، نظرًا لعدم رغبته في الائتلاف مع أي منهما، إذ يُعَد ائتلاف مع القوميين ضربة لصورة الحزب في الولايات الكردية، في حين سيبُث الائتلاف مع الحزب الكردي، وثيق الصلة بحزب العمال الكردستاني، صورة سيئة بين القواعد التركية المحافظة.
في ذلك السياق، رأي الكثيرون أن تعليمات داوود أوغلو كانت من ناحية إقرارًا بجدية الاحتمالات المؤدية لانتخابات مبكرة، ولكنها في نفس الوقت كانت ضغطًا على الشعب الجمهوري، الوحيد الذي يتفاوض معه حاليًا لتشكيل حكومة، ليخفف من شروطه، والذي أعلن منذ اليوم الأول رفضه للانتخابات المبكرة التي اعتبرها استهزاءً بإرادة الناخبين، وضرورة استغلال الفترة الدستورية لتشكيل ائتلاف حكومي كاملة، وهي 45 يومًا بدأت مع تكليف الرئيس الحزب الأكبر ببدء المفاوضات بعد انعقاد البرلمان، وستستمر حتى منتصف أغسطس.
على صعيد آخر، يبدو وأن معسكر مؤيدي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان داخل الحزب يدفع بالفعل ناحية هذا السيناريو بدلًا من الائتلاف مع العلمانيين، في محاولة للرهان على عودة الحزب لأغلبيته البرلمانية السابقة وإجرائه للتعديلات الدستورية التي يريدها، وهو خيار تقول مصادر عدة أن أردوغان نفسه يميل له، لا سيما وأن الكثير من السياسات الداخلية والخارجية التي يريد أردوغان استمرار الحكومة فيها قد تتبدل حال اضطر داوود أوغلو إلى التنازل عن بعض المواقف لتشكيل ائتلاف مع قلجدار أوغلو رئيس حزب الشعب.
تباعًا، ترى المجموعات الأخرى داخل الحزب أن الائتلاف مع الشعب الجمهوري سيكون فرصة في الحقيقة لتخفيف نفوذ أردوغان الطاغي في الحزب، والذي يعده الكثيرون المسؤول الأول عن الهزيمة في الانتخابات الماضية، وفُرصة لتعديل المسار في مواقف عديدة في السياسة الداخلية، مثل التضييق على حرية الإعلام مؤخرًا والعداوة الشديدة مع حركة كولن، والسياسة الخارجية، أبرزها التغاضي عن داعش في سوريا والذي يضر بصورة تركيا في علاقاتها بالغرب.
حتى الآن، تشير المصادر المقربة من الحكومة أن داوود أوغلو، مثله مثل الرئيس السابق عبد الله غُل، يميل إلى المعسكر الأخير، ويمضي بالفعل لتشكيل ائتلاف مع العلمانيين، إلا أن الصيغة التي سيجري بها تشكيل ائتلاف لا تزال محل خلاف بين الطرفين، وبينما يتبقى أقل من شهر على ضرورة الإعلان عن حكومة، كما تعهد داوود أوغلو قبل العيد، فإن عدم التوصل لاتفاق، وهو احتمال حقيقي، قد يدفع بالحزب إلى إعلان انتخابات مبكرة ستجري في نوفمبر، وسيكون مصير الحزب حينئذ غير معروف بشكل واضح، على عكس القوميين والأكراد الذين ستزيد حصتهم غالبًا، والعلمانيون الذين سيزداد تراجعهم.