ترجمة وتحرير نون بوست
عيد الفطر، هو يوم العطلة الدينية الذي يحتفل به المسلمون بانتهاء شهر رمضان المبارك، ومن المفترض أن يكون هذا العيد يمثل مناسبة سعيدة، خاصة بالنسبة للأطفال، الذين يتوقعون دائمًا في هذه الأعياد ملابسًا جديدة، ألعاب أطفال جديدة، الخروج للعب بالألعاب الترفيهية، ونقودًا تأتيهم على شكل عيديات من ذويهم.
ولكن الحال ليس كذلك بالنسبة لأطفال حلب، فالكثير منهم عاشوا بالفعل أربعة أعياد في زمن الحرب، وقضوا هذا العيد وهم ينقلون حاويات المياه البلاستيكية من الآبار المجاورة لمنازلهم، كون إمدادات المياه والكهرباء انقطعت عن المدينة لمدة ثلاثة أسابيع، وكان السبيل الوحيد للحصول على المياه هو بالاصطفاف بأدوار طويلة أمام الآبار المجتمعية الخارجية تحت قيظ حرارة الشمس الحارقة، وهي الوظيفة التي تركها معظم البالغين للأطفال القصّر طوال شهر رمضان، لأنهم استنفدوا طاقتهم خلال ساعات الصيام الطويلة والحارة، وعلى هذا الحال أنفق الكثيرون من أطفال حلب وقتهم حتى الآن، بدلًا من اللعب خلال العطلة الصيفية المدرسية، ولكن أولئك الأطفال كانوا من المحظوظين، لأنهم على الأقل لا يزالون يمتلكون منازلًا ومدارسًا يذهبون إليها، وهي النعمة التي حُرم منها العديد من الأطفال الآخرين.
المنظر المحزن في حلب يتمثل بالأطفال المعوزين الذين يعيشون في شوارع المدينة، والعديد منهم أيتام، وبعضهم مازال بسن صغير جدًا لا يخوله حتى الكلام، ومعظمهم ليس لديه أي وثائق هوية أو إثبات شخصية، أطفال هيئتهم قذرة، وبأقدام حافية، يرتدون أسمالًا بالية، ويجلسون وينامون على الأرصفة وفي الحدائق، أو بجوار أنابيب عوادم المولدات في ليالي الحرب الباردة، هذا الوضع لم يكن معروفًا قبل الحرب، ولكنه الآن أصبح واقعًا وحقيقة محزنة أخرى للحياة تحت القصف المستمر والموت العشوائي الذي تقاسيه هذه المدينة المدمرة.
هذا المشهد هو أحد أشد المشاهد تأثيرًا ضمن العواقب التي تعكسها الحرب على المجتمع، أحد المشاهد التي تصور الطريقة التي تُجرد بها الحرب المجتمع من إنسانيته شيئًا فشيء، حتى تزول كأثر دراس من ضمير المجتمع الجمعي، الأزمة الإنسانية في حلب تزداد سوءًا يومًا إثر يوم، وتحمل معالم الاستمرار واللانهائية، وجماعات المعونة تعمل بطاقتها القصوى، ومع ذلك بالكاد تستطيع تحقيق أي شيء.
أيتام حلب الشرقية
غريغوري هو شاب متطوع في كنيسة في منطقة العزيزية بحلب، تقع بالقرب من حديقة صغيرة تأوي العديد من الأطفال المشردين، ويوضح غريغوري مأساة هؤلاء الأطفال بقوله “نحن نقدم لهم الطعام واللباس، ولكن لا يمكننا أن نؤمن لهم المأوى، ليس لدينا غرف فارغة في أي مكان، لأن جميع الأماكن المتاحة شُغلت من قِبل الأسر النازحة الذين فروا من أحياء خطوط المواجهة الأمامية، هؤلاء الأطفال وحيدون، وليس لديهم أي وثائق أو مستندات تثبت هويتهم، ونحن لا نعرف من هم، بعضهم حتى غير قادر على الكلام، والبعض الآخر يحمل ذاكرة مشوشة عن المكان الذي انحدر منه، ولكننا نظن أن الكثيرين من هؤلاء الأطفال هم أيتام قادمين من الجانب الشرقي من المدينة، الذين قُتل ذووهم جرّاء القصف والقنابل، وأقاربهم الفقراء غير قادرين على الاعتناء بهم، نحن نعرف العديد من الحالات التي تم فيها وضع الأطفال اليتامى في حافلات وهم لا يحملون معهم سوى ملابسهم التي يرتدونها ولعبة صغيرة يضمونها بين أيديهم، وتم إرسالهم إلى مدن أخرى أكثر أمانًا، حيث قيل لهم أن يذهبوا إلى أي حديقة هناك، ويبقوا ضمنها، بعد طلب المساعدة”.
الحقيقة المحزنة هي أن أمر التعامل مع هذا الواقع متروك للناس العاديين والجمعيات الخيرية ومنظمات الإغاثة، والحكومة لا تُقدم على أي فعل بخصوص هذا الموضوع، عدا في الحالات التي يكون فيها آباء الأطفال الأيتام قضوا وهم يخدمون في الجيش النظامي، جميع البنى التحتية القائمة، بما في ذلك دور الأيتام ومستشفيات الأطفال، إما تم تدميرها، أو أصيبت بأضرار بالغة، أو تم تحوير استخدامها بغرض إيواء الأسر المشردة، بحيث لم يبقِ أي مرفق قادر على التعامل مع مشكلة الأطفال الأيتام في سورية.
ضمن أهوال ومآسي الحرب التي لا توصف، فإن معاناة الأطفال هي الأكثر استثارة وتحريكًا للمشاعر، إنهم الأبرياء الحقيقيون الذين يدفعون ثمن خطايا غيرهم، فهم ضحايا أمور وقعت خارج قدرتهم، وبعيدًا عن مقدرتهم على الفهم أو الإدراك، حتى أصغر الأطفال سنًا تعلموا اليوم أن يقولوا “بوم بوم” إلى جانب تعلمهم لكلمات “ماما” و “بابا”، والأسوأ من ذلك، هو استخدام هؤلاء الأطفال في خضم القتال الفعلي، أو في أدوار الدعم القتالي، وهو أمر شائع جدًا بين مختلف الجماعات المتمردة.
أطفال داعش المقاتلين
أسوأ الجناة في خضم ما يجري حاليًا في سورية، هو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الذي يجند ويدرب مئات الأطفال للقتال، ويعمل حتى على استغلال واستخدام بعضهم لتنفيذ التفجيرات الانتحارية أو لقطع الرؤوس؛ فأكاديميات داعش الحربية تعلّم الأطفال الكراهية العمياء، ليصبحوا آلات قتل إنسانية موجهة عن بعد، وما يفعله تنظيم داعش يعد أشد الجرائم فظاعة وهولًا التي اُرتكبت في ظل الحروب الدائرة على طول التاريخ الإنساني الحديث، حيث يُقدر بأن حوالي 50 طفلًا تقل أعمارهم عن 16 عامًا، لقوا حتفهم في هذا العام فقط وهم يقاتلون لصالح تنظيم الدولة في سورية.
لكن أكبر الخسائر في الأرواح بين الأطفال في سورية، وقعت نتيجة لقصف المدن والبلدات التي يسيطر عليها المتمردون من قِبل القوات الحكومية من خلال ما يسمى بالبراميل المتفجرة، وهي براميل غير موجهة مليئة بالذخائر الثقيلة تُقذف من ارتفاعات كبيرة عن طريق طائرات الهليكوبتر، وهذا السلاح هو عشوائي بطبيعته، وفي المناطق التي يسقط بها، يسفر عن مقتل أعداد هائلة من المدنيين أكثر بكثير من أعداد المقاتلين المتمردين، خاصة عندما يتم إسقاطه فوق الكتل السكنية المكتظة بالسكان، وهو ما يجري في أغلب الأحيان؛ ففي مدينة حلب الشرقية وحدها، آلاف من الأشخاص قضوا بهذه الطريقة، ونسبة كبيرة من هؤلاء كانوا من الأطفال، والذين توفي بعضهم وهم نيام في منازلهم.
الدمار الهائل الذي قوّض أجزاءً عديدة من البلاد، وشرّد الملايين من سكانها، حقق حصيلته الكبرى على حساب الفئات الأكثر ضعفًا في البلاد، وهم الأطفال؛ فالعديد منهم يتمتعون بفرص محدودة أو معدومة للتعليم في مخيمات اللاجئين القذرة، في البلد الذي كان فيه التعليم إلزاميًا ومجانيًا قبل اندلاع الأحداث، وبدلًا من ذلك، يضطر هؤلاء الأطفال للعمل، أو للتسول، لمساعدة أسرهم للبقاء على قيد الحياة.
حسب آخر الإحصائيات، هناك ما يقدر بـ4 ملايين لاجئ سوري يعيشون في البلدان المجاورة، ولا يوجد ما يكفي من الموارد للتعامل مع هذا السيل الجارف والمستمر من الفارين من فظائع وأهوال الحرب الطاحنة، لا بل إن الأسوأ، أنه يتم أحيانًا قطع المساعدات القادمة لهؤلاء اللاجئين، العالقين في غياهب النسيان، بلا أمل وبلا مستقبل، وهم ينتظرون نهاية الحرب التي لا تلوح في أي أفق، أو على الأقل لا يلوح أمل انتهائها في الوقت المناسب لإنقاذ القليل المتبقي من طفولة الأطفال وبراءتهم.
مستقبل سورية المتمثل بأطفالها يتم إفساده اليوم؛ فحتى لو وضعت الحرب أوزارها غدًا، لن نستطيع تصور أو معرفة مدى ديمومة وشدة الندوب والصدمات النفسية التي لحقت بهذه الفئة الأشد هشاشة من شعبها، كيف يمكنك إعادة تأهيل طفل لم يعرف بتاتًا أي شيء سوى القتل والحرب والدماء؟ وكيف ستعلم هذا الطفل أن يمسك كتابًا بدلًا من البندقية، أو تعلمه ألّا يخاف من الموت مع كل ضجيج عالٍ يتناهى إلى مسامعه؟ كيف تعلمه أن هناك أشياء أخرى في هذا العالم غير الحقد والشر والكراهية؟ أن هناك أمل وحب أيضًا؟ تلك هي أصعب التحديات التي ستواجه الشعب السوري في مرحلة ما بعد الحرب السورية.
المصدر: ميدل إيست آي