ترجمة وتحرير نون بوست
كاتب المقال: باراج خانا
كل خمس سنوات، ينشر مجلس الاستخبارات الوطني في الولايات المتحدة، والذي يقدم المشورة لإدارة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، تقريرا محاولا التنبؤ بالاتجاهات العالمية وتحولاتها على المدى الطويل. هذا العام، صدر آخر تقرير للمجلس بعنوان “عوالم بديلة”، حيث تضمن سيناريوهات لـ”كيف سيبدو العالم بعد جيل من الآن”
أحد السيناريوهات التي اقترحها التقرير أتى بعنوان “عالم بلا دول”، يتصور الكوكب وقد تراكم فيه “التحضر، والتكنولوجيا ورأس المال” حيث صار المشهد عبارة عن حكومات لا تسعى لإحداث أي إصلاح حقيقي، في حين تتعاقد على تسليم مسؤولياتها لأطراف أخرى لها قوانينها الخاصة.
التقرير يرسم تلك السيناريوهات لعام ٢٠٣٠، إلا أنه لـ”عالم بلا دول” فقد يصلح السيناريو السابق للتعبير عن العام ٢٠١٠، فعلى الرغم من أن معظمنا لا يدرك ذلك، إلا أن ذلك السيناريو يصف الكثير عن كيفية عمل المجتمع الدولي حاليا. لا يعني هذا أن شكل الدولة التقليدي اختفى بالطبع، أو سيختفي، لكنها أصبحت نموذجا للحكم بين عدة نماذج أخرى
بنظرة عابرة في العالم، نرى أن أكبر النجاحات والابتكارات تحققت في المناطق التي استطاعت إيجاد علاقة جيدة بين القطاعين الخاص والعام، و بين المحلي والدولي. أو بعبارة واحدة “مناطق اقتصادية خاصة”
في إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا، انتشرت مئات من هذه المناطق خلال العقود الأخيرة، في ١٩٨٠ أصبحت “شنزن” هي أولى تلك المناطق في الصين. الآن، هذه المنطقة تغطي كامل الصين التي أصبحت ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
العالم العربي لديه أكثر من ٣٠٠ من هذه المناطق، نعم، أكثر من نصف تلك المناطق في مدينة واحدة: دبي. ابتداء بمنطقة جبل علي الحرة والتي تُعد أحد أكبر موانئ العالم وأكثرها أهمية وكفاءة، دبي الآن تمثل مجموعة كثيفة من المراكز التجارية المُدارة دوليا.
هذه طبقات معقدة من السلطات الإقليمية والدولية القانونية والتجارية تسير جنبا إلى جنب مع ثاني أكبر الاتجاهات السياسية في هذا العصر: التفويض.
في مواجهة التحضر السريع، تحاول كل مدينة أو ولاية أو مقاطعة إيجاد فرصها الخاصة، ويمكنهم ذلك إذ تعتمد الدول على أكبر مدنها أكثر من العكس. رئيس بلدية نيويورك “مايكل بلومبرج” مولع بالقول “أنا لا أستمع كثيرا إلى واشنطن” لكن من الواضح أن واشنطن تستمع إليه. الأمر نفسه بالنسبة لرؤساء بلديات أخرى حول العالم، هذا هو السبب في وجود -على الأقل- ثمانية محافظين أو رؤساء بلديات سابقين على رأس دولهم أو حكوماتهم.
مقاطعات مثل سكوتلندا و ويلز في المملكة المتحدة، كاتالونيا في أسبانيا، كولومبيا البريطانية في كندا، استرالية الغربية وغالبا كل مقاطعة هندية كبرى، جميعهم يبحثون عن استقلال مالي وسياسي عن عواصمهم الوطنية.
ربما تظهر خريطة العالم قرابة ال٢٠٠ دولة، إلا أن السلطات الفاعلة والمؤثرة قد تزيد عن ذلك الرقم بمائة أخرى على الأقل.
تبعات ذلك أننا يجب أن نتجاوز التفكير خلال نطاق الدول واضحة التعريف، إلى التفكير في دمج سكان العالم الآخذ في التحضر بسرعة في الأسواق الدولية والإقليمية. وهذا سيكون حلا حقيقيا في الحد من الفقر الفقر وتحسين فرص الحصول على السلع والخدمات الأساسية ورفع مستوى الحياة عموما لدى المواطنين، بخلاف محاولة توسيط الحكومات المركزية في حل كل تلك المشاكل.
مجتمعات متصلة مع بعضها هي مجتمعات أفضل حالا كثيرا من تلك المعزولة، فضلا عن أن فرص النزاع تقل، إلا أن البلدان ستبدأ في بناء الطرق والسكك الحديدية، أنابيب الغاز والبترول، الجسور وكابلات الانترنت عبر الحدود، تكوين شبكات من المدن تعتمد على بعضها في التجارة، الاستثمار وخلق فرص العمل.
بوروندي، كينيا، رواندا، تنزانيا وأوغندا شكلوا مجتمعا في شرق أفريقيا لتنسيق كل شيء من الجمارك إلى عروض الاستثمار لحفظ السلام. إذا أصبح بإمكانهم الاستفادة من البنية التحتية التي بنتها الصين في تلك البلدان للتغلب على الحدود السياسية التعسفية التي خطها الاستعمار، فإنهم سيكونوا الاتحاد الأوروبي الوليد لإفريقيا.
ليس هناك مكان أجدر بإعادة التفكير في مفهوم “الدولة” من الشرق الأوسط. هناك حزن عبثي ينبع من رزم التحليل اليومي لقضايا سوريا والعراق مثلا، حيث تفشل تلك التحليلات في فهم أنه لا توجد دولة لديها حق إلهي في الوجود. بعد قرن من استطاعة الفرنسيين والبريطانيين تقسيم الدولة العثمانية إلى ولايات ضعيفة (قصيرة العمر)، كانت الدول الناتجة متداعية عصية على الإصلاح.
لن يبعث العالم العربي مجده القديم إلا بعد إعادة رسم خريطته لتصبح واحات مستقلة تربطها طرق الحرير والتجارة. قد تضغط الطوائف العرقية واللغوية من أجل الاستقلال، وبلا شك يستحق الفلسطينيون والأكراد ذلك، وبعد فترة أخرى من التشرذم والانقسام، ستمثل تلك المجتمعات الجديدة ذات السيادة خطوة حاسمة في عملية طويلة لبناء استقرار عابر للقومية.
الدول الأضعف يجب أن تتكاتف معا في تجمعات إقليمية، وإلا فستخاطر بالتداعي خضوعا للمبدأ القديم قدم الدول: فرق تسُد
لا يمكننا فهم أي دولة خارج ذلك النظام المعقد حيث تتفاعل مع الآخرين في حلقات من التغذية والتغذية الراجعة (Feedback) . ادعى هيغل قبل قرنين من الزمان أن الدولة عمل فني، لا تشبه دولة الأخرى. ملاحظته تلك أصدق الآن من أي وقت مضى. الآن لا يهم شكل تلك الدول ولا جغرافيتها ولا نظامها السياسي، كما أن الدول الآن متصلة ببعضها أكثر من أي وقت آخر، ومن المرجح أنها ستظل على هذا الحال.